احتجاجات العراق.. هل تمر الأزمة أم تستفحل؟

زهير حمداني

بعد انتخابات مايو/أيار الماضي التي اعتبرها البعض حلا لمشاكل العراق بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، تأتي احتجاجات البصرة ومحافظات بالجنوب لتنثر أسئلة كثيرة حول أسبابها الحقيقية وعلاقتها بالتجاذبات الداخلية والخارجية ومآلاتها.

فمنذ عام 2009 لم تهدأ الاحتجاجات في العراق إلا قليلا، يراها البعض نتيجة منظومة الحكم بعد الاحتلال الأميركي والقائمة على المحاصّة الطائفية والحزبية التي فشلت في تكريس التمثيل العادل والاستقرار السياسي الكفيل بالاتجاه نحو التنمية، ويرجعها آخرون إلى حسابات سياسية وتجاذبات داخلية وإقليمية تعرقل الحل.

والاحتجاجات الأخيرة في محافظة البصرة ومناطق أخرى، منها النجف، على نقص الخدمات والمياه والكهرباء والبطالة وأزمة السكن، تأتي أيضا على وقع عملية إعادة الفرز لأصوات الانتخابات والسجال السياسي المتصاعد حول تركيبة الحكومة المقبلة والكتل الرئيسية فيها.

وفي وقت كان ينتظر فيه أن تمنح الانتخابات الأخيرة ونتائجها هدوءا واستقرار ا، أضافت الاحتجاجات المتصاعدة معضلة أخرى إلى البلد الذي يشهد مشاكل جمة ويعيش صيفا لاهبا وصلت فيه الحرارة إلى نحو 50 درجة مئوية في مناطق عدة وتعطلت شبكة الكهرباء والمياه الصالحة للشرب.

ولم تفلح وعود الحكومة في البصرة -المحافظة التي تعد الأغنى في البلاد- في تخصيص ملياري دينار لتوفير المياه الصالحة للشرب وتوفير عشرة آلاف فرصة عمل في كبح جماح المتظاهرين، ويتساءل الكثيرون عن سبب غياب الإجراءات قبل بدء الاحتجاجات. في حين حذر رئيس الوزراء حيدر العبادي من وجود من أسماهم مندسين يحاولون العبث بالتحركات السلمية والإساءة للتظاهر السلمي. 

وتنظر الحكومة بجدية إلى تصاعد الحراك في المحافظات الجنوبية (ذي قار وبابل وكربلاء وميسان والديوانية والنجف) الذي وصل إلى مشارف حقل مجنون النفطي شرق البصرة وإلى الحدود الكويتية (إغلاق منفذ سفوان)، وأدى إلى سقوط قتيل في ميسان، إذ قطعت خدمة الإنترنت في عموم البلاد، واستنفرت القوات الأمنية، في وقت عززت فيه الكويت من وجود قواتها على الحدود.

رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي (يمين) مع مقتدى الصدر خلال مشاورات تشكيل الكتل السياسية (رويترز)
رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي (يمين) مع مقتدى الصدر خلال مشاورات تشكيل الكتل السياسية (رويترز)

أزمة اقتصادية أم سياسية؟
يرى محللون عراقيون أن فشل الحكومات المتعاقبة في حل المشاكل الاقتصادية وتحسين مستوى العيش مثّل وقودا للحراك الاجتماعي وحركة الاحتجاج المستمرة حتى داخل المناطق الشيعية -والتي تبناها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر منذ عام 2015- وأفضت لاحقا إلى فوز تحالف "سائرون" في انتخابات مايو/أيار 2018.

ويقول الكاتب باتريك كوبيرن في مقال بصحيفة إندبندنت البريطانية إن الغضب الشعبي ضد الطبقة السياسية التي جاءت إلى السلطة في العام 2003 يفسر تقدم تحالف "سائرون" الذي يطالب بالإصلاح السياسي والاجتماعي في انتخابات البرلمان.

ويرى كوبيرن أن نسبة التصويت المنخفضة في الانتخابات (44.5%) تؤكد وجود قناعة لدى قطاع كبير من العراقيين بأن شيئا كبيرا لن يتغير مهما كان شكل الحكومة القادمة في البلد الذي ينتج 4.3 ملايين برميل من النفط يوميا.

ويضيف الكاتب أن أمثلة غريبة من السرقات الحكومية تكررت منذ أن استلمت طبقة جديدة الحكم في العراق بعد الغزو الأميركي، ومن ذلك في المدة بين عامي (2004 و2005) عندما اختفت ميزانية المشتريات العسكرية التي تبلغ 1.3 مليار دولار.

ويقول الكاتب إن الأحزاب الحاكمة جراء المحاصّة تستخدم الوزارات والقطاعات التي تسيطر عليها مثل "أبقار نقدية" تحافظ من خلالها على سلطتها، مضيفا أنه "لا يمكن القضاء على الفساد في العراق، ولكن يمكن أن يكون أقل تدميرا".

وتشير بعض الأرقام -التي نشرتها هيئة النزاهة عام 2016- إلى أن أكثر من ألف مليار دولار (تريليون دولار) دخلت موارد الدولة العراقية منذ عام 2003، في وقت تراجعت فيه الخدمات الأساسية إلى أقل ما كانت عليه في زمن الحصار، في حين أشارت تقارير إلى وجود أكثر من ستة آلاف عقد وهمي في العراق نهبت بواسطتها عشرات مليارات الدولارات.

من جهتها، تقول النائبة حنان الفتلاوي إن الحكومات المتعاقبة بعد 2003 لم تستطع تلبية أدنى حقوق المواطنين، وانشغلت الأحزاب الممثلة في الحكومة بالخصومات وعقد الصفقات، واعتبار العراق غنيمة بأخذ العمولات.

ورغم الوعود ومحاولات الإصلاح، فشلت حكومة العبادي في التخلص من الأزمة، فكتلة رواتب القطاع العام والقطاعات التي تديرها الدولة تستنزف نحو 70% من الموازنة العامة بما يؤثر على تطوير البنية التحتية، في حين أدى تراجع أسعار النفط منذ عام 2014 إلى عجز الحكومة عن تنفيذ خططها وأحيانا عدم دفع رواتب ما يزيد على 6 ملايين موظف، يمثّلون نحو 45% من القوة العاملة في البلاد.

ويرى مراقبون أن "الديمقراطية" التي انبثقت بعد الغزو الأميركي عام 2003 وآليات تطبيقها لم تستجب للمطالب الشعبية، وبقيت الممارسة السياسية نخبوية، واستغلت أطراف عدة نظام المحاصّة الطائفية لتكريس نفوذها، مما ولّد سخطا مجتمعيا كبيرا تجسده الاحتجاجات الأخير وما قبلها.

‪مئات صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية تمت إعادة فرزها يدويا‬  (رويترز)
‪مئات صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية تمت إعادة فرزها يدويا‬ (رويترز)

الداخل وظلال الخارج
يرى محللون أن التحركات الاحتجاجية الحالية التي تزداد سخونة تشكل على عكس سابقاتها أزمة حقيقية تهدد العراق، الذي خرج من حرب شرسة استمرت ثلاث سنوات مع تنظيم الدولة الإسلامية ما زالت آثارها ماثلة، وتعبر عن فقدان الثقة بالانتخابات والنخب.

وتبدو رسالة المظاهرات واضحة للجميع، وخصوصا للقوى السياسية الشيعية حيث تتركز بالمحافظات الجنوبية (البصرة والنجف وميسان) وتأتي في ظل انقسام حاد داخل المشهد السياسي الشيعي بدأ منذ عام 2009 وتفاقم في انتخابات مايو/أيار الماضي بين نوري المالكي وحيدر العبادي.

ورغم أن التحركات الاحتجاجية حظيت بدعم المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني ومعظم القوى الشيعية وبينها التيار الصدري، فإن محللين يرون أنها تدخل في إطار المناكفات داخل البيت الشيعي وممارسة الضغوط على حيدر العبادي والعملية السياسية المقبلة.

وخروج التحرك الاحتجاجي في محافظة البصرة والمطالبة بالتغيير -بالنسبة لبعض المحللين- يحمل مفارقة، إذ إن نتائج انتخابات مايو/أيار البرلمانية هناك لم تفرز أي رغبة في التغيير.

وفي حسابات الداخل والخارج، يرى محللون أن العامل الإيراني حاضر في المظاهرات، فإيران -وفق تقديراتهم- تصفي حساباتها مع الولايات المتحدة على حساب العراق، وهي حريصة على ألا يحظى حيدر العبادي بولاية ثانية باعتبار أنها تناصر كتلة "الفتح" بقيادة هادي العامري وائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي.

وفسر محللون وناشطون عراقيون خطوة إيران بقطع نحو ألف ميغاوات من الكهرباء عن العراق في هذا الصيف القائظ باعتباره ضغوطا تمارسها طهران على العبادي -الذي تراه حليفا للأميركيين ومناهضا لها- عبر دفع الشعب للتحرك ضده وإثبات فشله.

ويرى محللون أن الاحتجاجات سوف تزداد، وأن العبادي مدعو لاتخاذ قرارات جريئة وقوية كحل مجالس المحافظات وإقالة المحافظين، واتخاذ إجراءات عاجلة لاستيعاب المظاهرات ووقف تداعياتها أو انتقالها إلى وسط البلاد وشمالها.

ويستبعد مراقبون أن تنضم المناطق السنية للحراك الاحتجاجي، إلا إذا كان هناك تصعيد كبير وحقيقي في مناطق في الجنوب والوسط كي لا تتهم هذه المناطق بالطائفية أو "البعثية" كما حصل في تحركات عامي 2011 و2015.

وفي غياب الحلول الجذرية في هذه المرحلة الانتقالية، تبدو رسائل الاحتجاجات مصوبة إلى الإرث السياسي العراقي ومنجزه الطائفي، وخصوصا إلى الحكومة والبرلمان القادمين وضرورة التغيير.

المصدر : الجزيرة