أحجية "الصدر" وإيران على طاولة المصالح
فوز التيار، تحت مسمى تحالف "سائرون"، بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان الجديد (54 مقعدا)، أعاد الجدل بشأن خريطة تحالفاته المرتقبة لتشكيل الحكومة المقبلة، وقراءة دلالات ما تردد عن استبعاد زعيم التيار مقتدى الصدر أي أطراف مرتبطة بإيران عن طاولة التفاوض لتشكيل الحكومة.
قصة المفاوضات تفتح الباب مجددا للحديث عن توجهات الرجل وتياره العروبي والموقف من راعية المذهب الشيعي في العالم إيران، وهو ما يتطلب تفكيك أحجية علاقة التيار الصدري وزعيمه مع إيران، في بعديها المذهبي والسياسي.
يلحظ المتابع لمسيرة التيار الصدري الذي ظهر على السطح في العراق مع سقوط نظام صدام حسين والاحتلال الأميركي للعراق، وإن كانت بنية التيار موجودة قديما في وسط وجنوب العراق، أنه كان من أبرز رموزه التاريخية المرجع والمفكر محمد باقر الصدر (عم مقتدى) الذي أعدمه النظام العراقي عام 1980، والمرجع محمد صادق الصدر (والد مقتدى) الذي اغتيل مع ولديه في النجف في فبراير/شباط 1999.
وعرف محمد صادق الصدر بتبنيه الوجه العروبي للتشيع والحوزة العلمية، وتصدى لمحاولات إيران نقل مركزية المرجعية الدينية للمذهب الشيعي من النجف إلى قم، وهو ما ساهم في بروز الرجل على الساحة العراقية.
وعن ذلك يقول يحيى الكبيسي في تقرير له على موقع مركز الجزيرة للدراسات إن "الصدر استثمر جملة من التحولات التي أعقبت حرب الخليج الثانية في أن يبرز بقوة في المشهد الشيعي في العراق بداية من العام 1992. فقد أعاد الرجل إنتاج الصراع حول "عروبة" الحوزة الدينية في النجف، وهو صراع بدأ مبكرًا مع بداية القرن العشرين"، وامتد الخلاف بين الصدر والمراجع التقليدية في إيران والعراق إلى مبدأ "ولاية الفقيه المطلقة" التي جاء بها الإمام الخميني، و"الولاية العامة المقيدة" التي تبناها الصدر.
هذه الخلفية الموجزة طبعت التيار الصدري، الذي بقي كامنا في العراق ولم يبحث عن ملجأ في إيران كباقي التنظيمات الشيعية العراقية، بطابع النائي بنفسه عن إيران والمتمسك باللون العروبي لمؤسسة التشيع. ولما جاءت لحظة انفلات البلاد بعد الاحتلال الأميركي، قام عناصر التيار بملء الفراغ الذي تركه سقوط مؤسسات الدولة بالعمل التطوعي والخدمي، خصوصا في مناطق الفقراء، وصولا إلى تشكيل كتائب مسلحة اشتبكت مع قوات الاحتلال في النجف عام 2004.
ومن لحظة ظهور التيار الصدري في الحياة العامة بالعراق، اتسمت سياساته بقدرة فائقة على ما أسماها البعض "اللعبة المزدوجة" في إدارة التحالفات وتوزيع أدوار مؤسسات التيار. ففي حين كان رموز التيار يشاركون في العملية السياسية في المنطقة الخضراء، كان جيش المهدي يخوض معاركه مع الاحتلال الأميركي، ويقصف المنطقة الخضراء.
وكما وقفوا إلى جانب نوري المالكي حتى فاز بالحكومة، كانوا الأشد عليه في البرلمان. ورغم أن التيار عرف بتجاوزه للمذهبية واقترابه من السنة في بعض القضايا، فإن مليشيات جيش المهدي كانت من الأشد فتكا بالمواطنين السنة بعد حادثة تفجير مرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء عام 2006.
التقت مصالح التيار الصدري مع إيران في مربع العداء للاحتلال الأميركي، فقد شكلت ودعمت إيران قائمة طويلة من المليشيات الشيعية المسلحة كإستراتيجية لإنهاك الاحتلال وصرفه عن الاشتباك مع الدولة الجارة. ولأن التيار الصدري كان يعبّر عن موقف مبدئي رافض للاحتلال، فقد لقي دعما وتسليحا وتدريبا من إيران، التي استضافت مقتدى الصدر حين كان مطلوبا لقوات الاحتلال، ومارست عليه ضغوطا للقبول بترشح نوري المالكي لولاية ثانية في الحكومة عام 2010، وقبل في النهاية.
سياسة "اللعبة المزدوجة" ساعدت التيار الصدري إلى جانب نشاطه الاجتماعي والخدمي في المناطق الفقيرة، وقيادته مسيرات شعبية واسعة للمطالبة بحقوق المواطنين، كان أكبرها مليونية ميدان التحرير في 2016 ضد حكومة حيدر العبادي.
هذه السياسات مجتمعة رفعت رصيد التيار شعبيا بشكل مستمر. فقد حصل على 23 مقعدًا من مجموع 275 مقعدًا في انتخابات 2005، ثم حصل على 30 مقعدًا في انتخابات مجلس النواب في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، وفي انتخابات 2010 فاز التيار بـ39 مقعدًا من مجموع 325 مقعدًا، وحصل على 54 مقعدا في الانتخابات الأخيرة الشهر الجاري.
البعد العروبي في سياسات التيار الصدري لم يعن قط عداءه لإيران أو صدامه مع سياساتها، فالتيار يتمتع ببراغماتية عالية جدا عبّر عنها معن البياري في صحيفة العربي الجديد بقوله "يصنع مقتدى الصدر مسافاته من إيران، ويخاصم الولايات المتحدة، وهو الذي انفرد، شيعيا، بمحاربتها إبّان الاحتلال. ويطالب بشّار الأسد بالتنحّي، ويزور الرياض وأبو ظبي اللتين تحاربان الحوثيين في اليمن. ويأتي بالحزب الشيوعي حليفا له في "سائرون"، فيكسب هذا الحزب 13 مقعدا في البرلمان. وترتاح أوساط عراقية سنيّة واسعةٌ لتصدّر الصدر نتائج الانتخابات".
تحرك إيراني
يجري الحديث عن تحرك نشط لقاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني لتشكيل تكتل من القوى المقربة من إيران لتجاوز خيار التيار الصدري كمحور لتشكيل الحكومة، فقد نقلت وكالة رويترز عن مصادر إيرانية قبل الانتخابات أن إيران لن تسمح لكتلة الصدر بحكم حليفها الوثيق للعراق.
لكن التيار الصدري عقد لقاءات تشاور مع غالبية الأحزاب والفصائل الشيعية، ربما باستثناء نوري المالكي، وهي في غالبيتها مرتبطة بإيران، ويساهم التيار فعليا في مليشيات الحشد الشعبي التي تشكلت بفتوى من المرجع الأعلى علي السيستاني، وتقودها رموز محسوبة على إيران.
بل إن وكالة رويترز أوردت أن الأميركيين تواصلوا مع التيار الصدري عبر وسطاء للسؤال عن موقف التيار الصدري عندما يتولى السلطة: هل سيعيد إلى الوجود أو يستحضر جيش المهدي أم يعيد توظيفه؟ هل سيهاجم القوات الأميركية في العراق؟. وكان جواب رئيس المكتب السياسي للتيار الصدري ضياء الأسدي مطمئنا للجانب الأميركي "لا عودة إلى المربع الأول. لا ننوي امتلاك أي قوة عسكرية غير قوات الجيش والشرطة والأمن الرسمية".
وفي تصريحات نقلتها قناة "العالم" الإيرانية، صرح الأسدي بأن مقتدى الصدر "لن يسمح باستخدام العراق كمنصة للهجوم على أي من دول الجوار"، وأن "التيار الصدري وشركاءه لن يخضعوا لرغبات أميركية"، مؤكداً أن "بيننا وبين إيران علاقات ثابتة ولن نخضع لأي إرادة خارجية سواء كانت أميركية أو غيرها"، مشيرا إلى أن "الوجود الأميركي في العراق وجود مرفوض خارج التمثيل الدبلوماسي".
توحي مجمل سياسات التيار الصدري منذ نشأته، ومواقفه بعد تصدره الانتخابات البرلمانية، أنه تيار سياسي براغماتي تحكمه المصالح، تماما كما تحكم الطرف المقابل إيران، التي عرفت بقدرتها على التعامل مع الخصوم والأعداء إذا كان ذلك سيحقق مصلحة كبرى.
فإيران استقبلت وسلحت التيار الصدري لإضعاف الاحتلال الأميركي، ومن قبله كانت استقبلت وآوت قادة حركة طالبان وقلب الدين حكمتيار من أفغانستان، ورموز تنظيم القاعدة، ومن ضمنهم أبو مصعب الزرقاوي، وسهلت دخوله إلى العراق لمواجهة الأميركيين وإشغالهم، وهؤلاء جميعا خصوم تاريخيون لإيران وسياساتها في أفغانستان والعراق.