مزارع الكاكاو بإندونيسيا.. من يجني خيراتها؟

بستان شوكولا بمدينة لوو، حيث يحتوي هكتار منه على 200 شجرة كاكاو.
بستان بمدينة "لوو" يحتوي الهكتار منه على مئتي شجرة كاكاو (الجزيرة)

رميساء خلابي-سولاويسي/إندونيسيا

 
لم يكن ميناء "ملقا" وحده من تخرج منه سفن بخارية محملة بثروات الأرخبيل الإندونيسي. فميناء "بتافيا" اسم جاكرتا القديم ما زال إلى اليوم شاهدا على ما خلفه الاستعمار الهولندي من دلائل تلك الحركة البحرية غير المتكافئة.

نتجه إلى بتافيا (الحي القديم بجاكرتا) المعروفة اليوم بمتاحف تؤرخ لتلك العلاقة القديمة بين المحتل وأهل البلاد. توثق الصور والتحف المتبقية تلك الحقبة، حين قام الحاكم الهولندي للهند "مالابار" بتجربة زراعة أول بذور كاكاو جلبها من كراكاس سنة 1568 قرب قصره في بتافيا، لكن العالم حينها كان منتشيا بحبوب القهوة أكثر، فلم تكتمل عملية الزراعة والتصدير حتى منتصف القرن الـ 18. فخرجت منه موانئ محملة بأطنان من الكاكاو، كان أغلبها يزرع في "سولاويسي الجنوبية" لأن أراضي جزيرة جاوا (الوسطى والشرقية على الخصوص) كانت مكتظة بأشجار البن.

سولاويسي الجنوبية ما زالت إلى اليوم تحتل الصدارة في كمية ما يُزرع من الكاكاو الذي تشغل أشجاره أكثر من مليون ونصف مليون هكتار، 60% من تلك المساحة في سولاويسي الجنوبية وحدها التي اتجهنا إليها واخترنا أن تكون بداية الرحلة الجلوس مع والي "لوو" وهي من أهم المحافظات المنتجة له.

ثمار الكاكاو تعرضت للإصابة وهو ما عانت منه العديد من المزارع
ثمار الكاكاو تعرضت للإصابة وهو ما عانت منه العديد من المزارع

يحدثنا الوالي "عمرو ساهر" عن زراعة الكاكاو فيقول "سنة 2017 بلغ إنتاج الكاكاو حوالي سبعمئة ألف طن في إندونيسيا، وهي موزعةٌ كالآتي: 650 ألف طن إنتاج الفلاحين، 13 ألفا إنتاج الحكومة، و22 ألفا إنتاج الشركات الأهلية. وهذه الأرقام تعني أننا نحقق تقدما ملموسا رغم المشاكل التي نواجهها، ففي موسم 2016 كان الناتج الإجمالي للكاكاو 657 ألف طن فقط".

تحتل إندونيسيا المرتبة الثالثة عالميا بعد كل من ساحل العاج وغانا على التوالي، من حيث كمية إنتاج وتصدير الكاكاو. غير أن حقوله تعرضت لمرضين مطلع الألفية الثانية قضيا على ثلث المحاصيل مما دفع كثيرا من الفلاحين الصغار إلى التوجه نحو زراعة الذرة والأرز والقرنفل والبن، بعدما كان الكاكاو مصدر الرزق الأساسي.

وقد وضع نائب رئيس الجمهورية "يوسف كالا" أواخر 2017، حجر الأساس لمركز البحوث والتنمية للكاكاو لشركة "مارس" في سولاويسي الجنوبية.

وحضر مراسم التدشين مارس فرانك مالك مجموعة مارس، وصرح أن مركزه البحثي تبلغ مساحته 95 هكتارا، وهي مساحة شاسعة. وكان المركز الأول لمجموعة مارس قد تأسس عام 2010 في سولاويسي الجنوبية أيضا بغرض مساعدة المزارعين في مكافحة المرض الذي أتلف ثلث المحاصيل منذ أول ظهور له سنة 2004.

ثمار تالفة تسببت في خسائر كبيرة للمزارعين 
ثمار تالفة تسببت في خسائر كبيرة للمزارعين 

مجموعة مارس -التي بدأت عملها في البلاد منذ عام 1996 في مدينة مكاسر عاصمة سولاويسي بأسماء تجارية أخرى- يتهمها نشطاء حقوقيون باستغلال الفلاحين البسطاء. ففي سنة 2017 بلغت إنتاجية المجموعة وحدها 290 ألف طن مما يعني احتكارا واضحا للكاكاو، وتباينا صارخا مع الأرقام الرسمية التي حصلنا عليها من والي لوو.

حاولنا طرق باب المصنع للاستفسار، لكننا مُنعنا من السؤال ومن التصوير. أخبرنا الفلاحون أن فرانك مارس يدير رؤوس أمواله مع أفراد عائلته، لكن مصانعه مُسجلة بأسماء محلية. ويبدو هذا الأمر غير مستبعد نظرا للقانون الذي تفرضه الحكومة على المستثمر الأجنبي في مشاركة مشروعه مع مواطن إندونيسي مناصفةً، فضلا عن زيادة في أداء الضرائب. ولهذا يلجأ كثيرٌ من المستثمرين الكبار في استخدام أسمائهم الحقيقية للدعاية فقط وليس على الأوراق القانونية.

عند لقائي حاكم "لوو" سألته عن قضايا الفساد التي تتهم بها مجموعة مارس في منطقته، ليس أقلها تلك القضايا إثارة للجدل مركز البحوث الذي يقوم عمليا بإقناع الفلاحين بقطع أشجارهم لأنها ستصاب بالعدوى آجلا أو عاجلا، ودفعهم لشراء بذور كاكاو هجينة لأنها عالية الإنتاجية، ناهيك عن استقباله 80% من ثمار الكاكاو الرطب من الفلاحين لتجفيفه، هذا العمل الذي لا يُفترض بمركز بحوث القيام به، فالفلاح هنا اعتاد منذ القدم تجفيف محاصيله بنفسه مدة ثلاثة أيام تحت أشعة شمس استوائية معتدلة. لكن الأيام الثلاثة تلك ذهبتْ وذهبت معها أرباح لا يمكن استرجاعها، فلا أحد يرغب بعد اليوم في شراء ثمار لم يجففها "مركز البحوث".

غير أن الوالي مصرّ على النظر إلى هذه الاتهامات من وجهة نظر مختلفة، فيقول "علينا الاعتراف بالدور الرائد الذي قام به مارس، فقد أنقذ محاصيل الكاكاو في منطقتنا، وسهل على المزارعين العمل، فليسوا بحاجة بعد اليوم لتحمل عناء التجفيف والتفاوض مع التجار حول الثمن".

وبالفعل لم يعد أي شيء كما كان، فحتى فرصة الفلاح في العثور على عرض يقدمه التجار الراغبون في شراء محصوله لم تعد قائمة، إذ أن مركز البحوث هذا من يحدد أسعار البيع والشراء مطلع كل يوم طيلة موسم الحصاد الممتد لنصف السنة.

التجفيف تحت أشعة الشمس لثلاثة أيام لكن معمل مارس أصبح محتكرا هذا العمل 
التجفيف تحت أشعة الشمس لثلاثة أيام لكن معمل مارس أصبح محتكرا هذا العمل 

تُشكل زراعة الكاكاو في إندونيسيا مصدر الدخل الوحيد لأكثر من خمسمئة ألف أسرة، ولمقارنة كسب الفلاح في "لوو" قبل افتتاح مارس مركز البحوث وبعده توجهنا بسؤالنا للفلاحين مباشرة.

الحاج حسن يملك بستانا مساحته عشرة هكتارات في "لوو" قريبا من مركز بحوث مارس، يقول إن عدد الفلاحين في هذه المنطقة يصل إلى مئتي فلاح، أما عن تحسن أوضاعهم المادية خصوصا مع ارتفاع نسبة الإنتاج فيقول "كنا نبيع الكيلو بحدود 25 ألف روبية (حوالي عشرين دولارا) قبل أن يفتح مصنع التجفيف (يقصد مركز البحوث) أما الآن فثمنه عشرة آلاف روبية (ثمانية دولارات) فقط لأنهم يقومون بكل شيء".

ويضيف أن المشكلة ليست في ثمن بيعه فقط بل حتى في كمية الإنتاج المنخفضة بالنسبة للفلاح فـ "في السابق، كنا نحصل على أربعة كيلوغرامات من ثمار الكاكاو من كل شجرة، أما الآن فالحصيلة كيلو واحد فقط في أحسن الأحوال".

يحتوي بستان مساحته هكتار واحد على مئتي شجرة كاكاو مما يعني اليوم إنتاج مئتي كيلوغرام مرتين في الشهر طيلة موسم الحصاد، أما في السابق فكان المحصول ضعف ذلك مرتين، ناهيك عن الأرباح المالية التي انخفضت إلى النصف.

مجموعة مارس بمدينة
مجموعة مارس بمدينة "لوو" تقول إنها تقوم ببحوث بينما تقوم في الواقع بشراء ثمار الكاكاو من الفلاحين 

أما سبب ارتفاع إنتاج البلد عموما للكاكاو فيعود لأمرين، أولهما الكاكاو الهجين الذين تنتجه مجموعة مارس، والثاني اتساع مساحات المزارع في مناطق أخرى مثل جزيرة "جاوا" التي بدأ فيها الاهتمام بالكاكاو مع تراجع الطلب العالمي على البن المحلي السنوات الأخيرة.

وتحتكرُ مجموعة مارس كل أنواع الشوكولا تقريبا المتوفرة في الأسواق والمحلات التجارية في إندونيسيا، بعضها تم إنتاجه في الصين، والبعض الآخر في مصنع المجموعة في مكاسر تُطبع على كل ملصقات أسماء عديدة من منتجات الشوكولا.

سألنا الحاج حسن إن كان قد تذوق طعم الشوكولا المصنعة في حياته، فقال "طبعاً تذوقتها على متن الطائرة في رحلتي لتأدية مناسك الحج".

في الدكاكين الصغيرة نجد منتجات المصانع المحلية التي يقول عنها الوالي إن الإقبال عليها في تزايد، وإنهم يطمحون للحصول على الدعم الكافي لافتتاح مصنع جديد بالمنطقة.

لكن الحاج حسن أخبرني عن عزمه تحويل أراضيه لزراعة الذرة التي تُحصد كل ثلاثة أشهر، حيث لا تحتاج لاهتمام يومي، كما أن أسعارها في السوق مستقرة.

المصدر : الجزيرة