ما حقيقة تهريب الأبقار التونسية نحو الجزائر؟

عبد الفتاح ينثر القرط أمام أبقاره لإطعامها/ رأس الجبل الفلاحية/محافظة بنزرت الشمالية/مارس/آذار 2018
الجلاصي مع مواشيه (الجزيرة)

 خميس بن بريك-تونس

 

يُفكر عبد الفتاح الجلاصي -أحد مربي الأبقار بمدينة رأس الجبل الفلاحية بولاية بنزرت الشمالية التونسية- في بيع إحدى أبقاره في سوق الدواب من أجل توفير بعض المال لإطعام البقية بأعلاف مرتفعة التكاليف، في وقت زاد فيه سعر البيع جراء تنامي شراء وتهريب الأبقار للجزائر.

وقادت الظروف القاسية هذا المربي بعد أربعة عقود على نشاطه في القطاع إلى خفض قطيعه إلى 12 بقرة بعدما اضطر منذ العام الماضي لبيع ثماني أبقار جراء ما لحقه من خسائر نتيجة التكاليف المشطة في شراء الأعلاف وانخفاض سعر بيع الحليب وغياب الدعم الحكومي.

وسط مستودع صغير تفوح منه رائحة الأبقار ذات الألوان المختلفة، يجاهد الجلاصي وابنه الكبير حمدي (25 عاما) لإطعام القطيع الجائع مما تبقى لهما من أكياس أعلاف لا تكفي لتغطية غذائه أسبوعا، بينما يعانيان من ضيق الحال بعدما كانت سابقا أوضاعهما ميسورة.

‪‬ .. اضطر لبيع عدد من أبقاره بسبب غلاء أسعار الأعلاف
‪‬ .. اضطر لبيع عدد من أبقاره بسبب غلاء أسعار الأعلاف

اعتزال نشاط
يتربع التعب والشحوب على وجه الفلاح الستيني، لكن ابتسامته العفوية تصمد أمام قسوة الظروف وهو ينثر بيده رزما من نبات القرط أمام أبقاره المتراصفة جنبا لجنب بينما تتناثر خيوط من القش الأصفر على ملابسه البالية، غير مبال سوى بإطعام أبقاره التي تشكل مصدر رزقه القليل.

وأمام ارتفاع أسعار العلف المركب المخلوط بالذرى والشعير والصوجا إلى ثمانمئة دينار للطن (320 دولارا) مقابل نصف المبلغ قبل سبعة أعوام وانقطاع الأعلاف المدعومة حكوميا واحتكارها بالسوق السوداء، يقول الجلاصي للجزيرة نت إن إنتاجه من الحليب قلّ وخسارته زادت.

وهذا الظرف الحالك أصاب عشرات مربي الأبقار في جهته الساحلية رغم انتشار الزراعات والمراعي في أريافها، لكن انخفاض سعر بيع لتر الحليب إلى 765 مليما مقابل ارتفاع تكلفته إلى 960 وفق معطيات رسمية دفع أغلب المربين لبيع قطيعهم، بل إن بعضهم اعتزل النشاط.

يتذكر ابن الفلاح حمدي -المندمج بقطاع تربية الماشية بعد انقطاعه مبكرا عن التعليم- كيف كان يعود خائبا عندما كان صغيرا إلى أبقاره لعدم عثوره على النبات الأخضر من المراعي ليطعم به القطيع بسبب كثرة المربين ومزاحمتهم لبعضهم. أما اليوم فقد انقلبت الآية وباتت المراعي خالية من المربين.

ويخنق شعور ممزوج بالعجز والأسى صوت حمدي، وهو يقول إنه يفكر ووالده لبيع بقرته البنية الجميلة في سوق الدواب بينما ترمقه بعينيها الودودتين. ويقول "أعلم أن المطاف قد ينتهي ببقرتي في الجزائر بعد بيعها إلى أحد التجار التونسيين ولكنني أحتاج ثمنها لأطعم البقية".

‪تدهور وضعية مربي الأبقار دفعهم للتخلي عن جزء من قطيعهم‬ تدهور وضعية مربي الأبقار دفعهم للتخلي عن جزء من قطيعهم (الجزيرة)
‪تدهور وضعية مربي الأبقار دفعهم للتخلي عن جزء من قطيعهم‬ تدهور وضعية مربي الأبقار دفعهم للتخلي عن جزء من قطيعهم (الجزيرة)

أوضاع متردية
وبسبب تردي أوضاع المربين وعدم دعمهم من وزارة الفلاحة برفع سعر الحليب، يؤكد حمدي ووالده أن عديد الفلاحين اضطروا لبيع أبقارهم لتجار تونسيين يقومون بدورهم ببيعها إلى نظراء جزائريين يهربونها إلى الجزائر عبر الحدود المحاذية بهدف ذبحها أو إنتاج الحليب.

ولأن الحديث يدور حول التهريب، يصعب إحصاء رؤوس الأبقار التونسية المهربة في اتجاه الجزائر وفق المدير المكلف بالإنتاج الحيواني بالاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري (نقابة) منور الصغيري، لكنه يقول إن التقديرات تشير إلى تهريب كميات كبيرة تصل إلى ألفين.

ويوضح الصغيري للجزيرة نت أن عملية تهريب الأبقار تنطلق من خلال توسط تجار تونسيين لفائدة آخرين جزائريين في أسواق الدواب المنتشرة بالبلاد، وبعد حمل الأبقار في شاحنات إلى المناطق الحدودية المحاذية للجزائر يتم تهريبها عبر مسالك جبلية وغابية يعرفها المهربون.

حول الأسباب، يقول إنه بسبب ارتفاع تكاليف شراء الأبقار والأعلاف والأدوية البيطرية واليد العاملة والمحروقات ارتفعت كلفة إنتاج الحليب، بينما بقيت أسعاره متدنية في غياب أي دعم حكومي للفلاحين الذي أصبحوا يتكبدون خسائر كبيرة دفعتهم مكرهين للتفريط بأبقارهم للتجار.

‪الصغيري: حل هذه الأزمة يتطلب إرادة قوية من الحكومة لدعم الفلاحين الصغار‬  الصغيري: حل هذه الأزمة يتطلب إرادة قوية من الحكومة لدعم الفلاحين الصغار (الجزيرة)
‪الصغيري: حل هذه الأزمة يتطلب إرادة قوية من الحكومة لدعم الفلاحين الصغار‬  الصغيري: حل هذه الأزمة يتطلب إرادة قوية من الحكومة لدعم الفلاحين الصغار (الجزيرة)

خطر قادم
وبما أن الحكومة الجزائرية خفضت في توريد الأبقار من الخارج العام الماضي بسبب انتشار الحمى القلاعية، دخل تجار جزائريون على الخط وباتوا يشترون كميات كبيرة من الأبقار مستغلين الأوضاع المتردية للمربين التونسيين مما أصبح يهدد منظومة تربية الأبقار، وفق رأي الصغيري.

ويختلف سعر البقرة الحلوب حاليا بأسواق الدواب التونسية طبقا لوزنها، لكن معدل الأسعار أصبح يتراوح بين أربعة وخمسة آلاف دينار (1500 و2000 دولار). وتوجد في تونس نحو 450 ألف رأس من الأبقار، لكن تهريب عشرات الآلاف سنويا يهدد السوق الداخلية ويزيد من غلاء اللحوم.

وقد أقرت وزارات التجارة والفلاحة والداخلية والمالية منذ أيام إجراءات جديدة لمنع تهريب الأبقار، وتتمثل في ترقيم الأبقار إجباريا واستصدار رخص عبور عند نقلها من مكان لآخر لإحكام المراقبة الأمنية وحجز الدواب في حال عدم احترام تلك الشروط للحد من التهريب.

لكن تلك الإجراءات يراها الصغيري (المدير المكلف بالإنتاج الحيواني بالاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري) "حلولا ترقيعية" معتبرا أن حل هذه الأزمة يتطلب إرادة قوية من الحكومة لدعم الفلاحين الصغار والمربين الذين يوفرون 80% من الإنتاج الفلاحي الوطني.

وبعد يوم طويل من العمل الشاق بمستودع الأبقار، يخلد الجلاصي وابنه حمدي للنوم على سريرين حديديين مهترئين قرب القطيع، إذ يزداد وجع تفكيرهما من الظروف القاسية التي يمران بها بمخاوف سرقة الأبقار وهي ظاهرة تفشت كثيرا وأفلست العديد من المربين.

المصدر : الجزيرة