"غَزْل العُروق".. تطريز يروي حكايات فلسطين

فلسطين رام الله بيرزيت 17 آذار 2018 أثواب من انتفاضة 1987 حين منع الاحتلال رفع العلم طرزته الفلسطينيات على أثوابهن
أثواب من انتفاضة 1987 حين منع الاحتلال رفع العلم فطرزته الفلسطينيات على أثوابهن (الجزيرة)

ميرفت صادق-رام الله

ثوب أبيض مطرّز بالخيوط الحمراء، وهو مزيج تقليدي مألوف في اللباس الفلسطيني التراثي، لكنك ستلمح به رتقا من غير أصله، من أكياس الطحين التي تلقاها اللاجئون معونة بعد النكبة. ويعبر هذا عن تحولات الثوب الفلسطيني انسجاما مع التغييرات السياسية والاجتماعية والطبقية.

عُلق الثوب في ركن رئيس بمعرض "غَزْل العروق" الذي افتتحه المتحف الفلسطيني ببلدة بيرزيت وسط الضفة الغربية الأحد، ويستمر حتى أغسطس/آب المقبل، ويروي قصص نحو مئة ثوب مطرز من فترات سياسية مختلفة.

والثوب المرتوق (المرقّع) من مجموعة الفلسطينية مها أبو شوشة، وتروي حنين صالح من المتحف الفلسطيني قصته قائلة إن سيدة من رام الله قدمته لإحدى النساء اللواتي شُرّدت مع عائلتها في النكبة عام 1948، لكن الأخيرة كانت أطول من صاحبته.

ولجأت المرأة إلى إضافة أقمشة مما توفر لها من أكياس طحين "وكالة الغوث" على أطرافه وصدره، ويستطيع الزائر ملاحظة حرف " N" من رمز الوكالة " UN" ظاهرا على طرفه. وتقول حنين صالح إن الثوب يمثل أبلغ تعبير عن الظروف القاسية التي واجهت الفلسطينيين بعد النكبة.

ثوب لاجئة رتقته بقماش من أكياس طحين أونروا بعد النكبة 
ثوب لاجئة رتقته بقماش من أكياس طحين أونروا بعد النكبة 

لكنه يؤشر أيضا إلى مرحلة لم يكن فيها سوق للمواد الأولية من خيوط وأقمشة لصناعة الثوب التقليدي. وبينما كانت الاختلافات الجغرافية تميز هوية كل ثوب أيضا، امتزجت غرز التطريز بعد أن اختلط اللاجئون من سكان القرى بالمدن والمخيمات. كما اختلفت علاقة التطريز بالنساء بعد أن كان بالنسبة لهن ممارسة يومية في بيوتهن، صار التطريز فرصة للشغل وكسب الرزق.

ووقف ثوب النكبة في "غابة من الأثواب" كما وصفها المتحف، تعبر عن مراحل سياسية وطبقات اجتماعية مختلفة. وفي افتتاحية المعرض، تظهر أثواب الحياة اليومية للمرأة الفلسطينية مشغولة من أقمشة ومواد متعددة وتتخللها الرقع أحيانا لتعبر عن قساوة الواقع الذي عاشته وصعوبة عملها في البيت والزراعة.

ثم تحتل لوحات كبار الفنانين الفلسطينيين التشكيليين -مثل نبيل عناني وسليمان منصور وعبد الرحمن المزين- جانبا آخر من المعرض، وهي التي تناولت المرأة الفلسطينية دائما بلباسها المطرز.

المقاومة باللباس
وفي صدر المعرض سيتابع الزائر قصة مقاومة أنشأتها الفلسطينية بثوبها، فبخلاف الورود وعروق الشجر والأشكال الهندسية، يظهر ثوبها مطرزا بالعلم الفلسطيني وهو واحد من أبرز سمات الانتفاضة الشعبية عام 1987 حين منعت إٍسرائيل رفع العلم الفلسطيني الذي طرزته النساء فجعلن من أجسادهن أداة مقاومة.

قيّمة المعرض ديدمان
قيّمة المعرض ديدمان

قيّمة المعرض الكاتبة البريطانية ريتشل ديدمان -والتي نظمته بعد بحث استمر أربع سنوات وبدأ بمعرض "أطراف الخيوط" في بيروت قبل عامين، ثم استكمل في المتحف الفلسطيني برام الله- تقول إن "غزل العروق يروي قصصا فريدة لم تسمع من قبل حيث لكل ثوب تاريخه الخاص".

وتبعا لبحثها، ظهر التطريز الفلسطيني خلال المئة عام الأخيرة كصورة ورمز وسلعة وأداة مقاومة، وكذلك "مصدر للفخر والقوة". وتعتقد أن التطريز ليس مجرد سلوك ذاتي، وإنما هو منتج وأداة يمكن من خلالها استكشاف تاريخ فلسطين وتحولاتها السياسية والثقافية.

ويأتي المعرض متزامنا مع نقاش واسع حول قضايا النساء في مارس/آذار، ويستعرض علاقة التطريز بالنوع الاجتماعي والطبقات الاجتماعية وسوق العمل وظواهر تسليعه، متتبعا تحولاته "من ممارسة مدفوعة بالحب والشغف عند المرأة" إلى رمز بصري للقضية والثورة، ثم إلى منتج ثقافي واستهلاكي.

ويتتبع "غزل العروق" تاريخ التطريز ومسار الموضة في فلسطين منذ عام 1921، ويلقي الضوء على تداخل التصاميم الأجنبية بالتفاصيل التقليدية عبر مجموعة صور من أرشيف جمعيات فلسطينية بمخيمات اللاجئين في لبنان، وتستعرض منتجات نسوية من السبعينيات في عروض أزياء لعارضات بأثواب وردية حديثة يدخل بها التطريز الفلسطيني.

ثوب فلسطيني حديث استعانت صاحبته بالإنترنت لتطريزه
ثوب فلسطيني حديث استعانت صاحبته بالإنترنت لتطريزه

بأيدي الرجال أيضا
وفي أحد أركان المعرض، تحتل قطع من الجرار واللوحات المشغولة يدويا حيزا لافتا تعرفه الكثير من البيوت الفلسطينية حيث تلقتها هدايا من أبنائها الأسرى في سجون الاحتلال. ويمثل هذا تحول التطريز إلى فعل وطني خرج من دائرة النساء.

وهنا يروي الشاب كرم المالوخ قصة تعلمه التطريز بعد اعتقاله عام 2008، وفيها أنتج قطعا مطرزة هدايا لخطيبته، وما زال يمارس هذه الهواية بعد الإفراج عنه.

ويعكس المعرض التحول الزمني بين أقدم الأثواب المعروضة والمشغولة يدويا وتعود لعائلة قعوار في بيت لحم من القرن 19، إلى ثوب للفلسطينية رجاء الزير من عام 2008 والذي تعلمت غرزه وألوانه من الإنترنت. كما يشير استخدام الخيوط والغرز بقلة أو كثرة إلى تطور الوضع الاقتصادي للأسرة الفلسطينية.

في الثمانينيات، ساد نمط الغرزة المثمّنة وحل محل الغرزة الفلاحية المربعة، وعكس هذا تحسن الأحوال الاقتصادية للفلسطينيين بعد طفرة النفط بالخليج والتحويلات التي كان يجريها الأبناء العاملين هناك لعائلاتهم في الوطن.

ومع تطور صناعة الألبسة عالميا، يعتقد القائمون على المعرض أن التطريز الفلسطيني استطاع مواكبة سيادة الأزياء الغربية أو تطور اللباس الإسلامي الذي شهد بدوره معالجات تطريزية يدوية أو آلية.

المصدر : الجزيرة + وكالات