"النفّة".. أسرار مؤنس البؤساء في تونس

محمد علي لطيفي النفّة موضبة التي تصنعها الدولة
كيس نفّة من تلك التي تباع بشكل منتظم (الجزيرة)

محمد علي لطيفي-قفصة

بيديها المجعّدتين ونظراتها الثاقبة، تقف المسنة نويّة عبد الحليم متكئة على عكازها الخشبي على قارعة الطريق في السوق الأسبوعي بمحافظة قفصة (وسط غرب تونس)، تعرض أوراقا نباتية مجففة بنية اللون رصتها في رزم بحجم كرة القدم تشدها خيوط متينة.

لتأمين لقمة عيشها، تنظر نويّة (50 عاما) إلى بضاعتها التي رصتها بانتظام في انتظار زبائن يشترونها لصنع ما يعرف محليا بـ"النفّة"، وهو مخدّرٌ من عائلة التبغيات، يلقى رواجا بالأساس لدى النساء والرجال المتقدمين في السن.

بين أوراق التبغ المجفّفة ومساحيق النفّة الجاهزة، خبرت صنعها منذ سنوات، تقول نوية للجزيرة نت "بضاعتي مشهورة بين الناس، من كل مكان يأتيني الناس لشراء ما يسد رمقهم لمدة أسبوع، لأن وصفة النفة الجيدة سر أحتفظ به أبا عن جد".

بخطاها المتثاقلة، تقف نوية من على كرسيها وتمسك ورقة تبغ لم تُسحق بعد، لتروي طريقة إعداد مسحوق "النفّة" العتيق. تبدأ العملية بتجفيف أوراق التبغ تحت أشعة الشمس، ثم تخلط مع أوراق نبتة الرّمث الصحراوية، لتتحوّل بعد ذلك إلى دقيق أسود، بعد رفسه بعكاز في آنية صنعتها من الحجارة تسمى "القلالة".

‪نوية عبد الحليم ممسكة رزمتين من أوراق النفة وسط السوق الأسبوعي بمحافظة قفصة‬  (الجزيرة)
‪نوية عبد الحليم ممسكة رزمتين من أوراق النفة وسط السوق الأسبوعي بمحافظة قفصة‬  (الجزيرة)

صوت نوية لا يهدأ وسط زحام المارّة وضجيج السيارات الذي يملأ المكان. تحاول أن تطغى بصيحاتها على باقي الباعة في السوق لجلب انتباه الزبائن، وعرض محاسن بضاعتها التي جلبتها من محافظة قابس القريبة على الضفة الساحلية للبلاد شرقا.

لا تبالي البائعة الخبيرة بغير بيع بضاعتها من أجل تأمين لقمة عيش أسرتها المكونة من خمسة أفراد، ومساعدة أولادها على مواصلة الدراسة، وسط أزمة اقتصادية خانقة تمر بها تونس منذ الثورة.

فجأة، تتوقّف نويّة عن الحديث مع بعض النسوة اللواتي اجتمعن حولها لشراء "النفّة"، وتجلس على كرسي خشبي يبدو أنه رفقيها في حلها وترحالها منذ سنوات، مشيرة إلى أنه "حان وقت بعض من النفة، لم أعد أقوى على مواصلة الثرثرة مع هؤلاء النسوة قبل أن أعدّل مزاجي المنهك" وسط قهقهات ملأت المكان.

مخدّر البؤساء
تمسح بمنديلها قطرات العرق التي تتصبّب على وجهها الشاحب المجعد، ثم تسحب علبة "النفّة" من عمامة وضعتها على رأسها، لتضع قليلا منها ما بين فكها وشفتيها، فهي -كما تقول- لا تحبّذ الحصول على هذا المسحوق من الأكياس الجاهزة التي تحمل علامة تجارية نظامية موضبة، فقط هي ترغب في الحصول على هذا التبغ العتيق الذي صنعته يداها.

 النفّة مصدر رزق العديد من النساء في الجنوب التونسي (الجزيرة)
 النفّة مصدر رزق العديد من النساء في الجنوب التونسي (الجزيرة)

توصف "النفّة" هنا بأنها مادة للبائسين في الجنوب التونسي، خاصة وأن سعرها في المتناول مقارنة بعلب السجائر مثلا، إذ لا يتجاوز سعر الكيس الواحد منها الدينار (ربع دولار أميركي).

تؤكد نوية أن النساء في المناطق الريفية المحافظة يستهلكنها دون حرج، وبعلم عائلاتهن، كما أنّها أصبحت تشهد إقبال الشباب بعد ارتفاع أسعار السجائر إبان الثورة، حسب وصفها.

وتضيف نويّة أن هذه المادة تُحضّر بالطريقة نفسها، وتحتوي على التركيبة ذاتها في مختلف المحافظات التونسية.

مصدر فخر
ولا يعدّ مسحوق "النفّة" مجرّد معدل مزاج بسيط لنوية، التي علقت في براثنه من أول جرعة منذ كان عمرها عشرون عاما، فهي مكوّن أساسي في الثقافة الشعبية في مدن الجنوب التونسي، كما أنها كانت مصدر فخرٍ لمستهلكيها، حتى إن شيوخ جامع الزيتونة المعمور دأبوا على تعاطيها قبل تقديم الدروس للطلبة.

ويؤكد الباحث في التاريخ الناصر البقلوطي أن النفة من الرواسب الثقافية للمجتمع التونسي التي لم تنقطع وما زالت تشهد إقبالا ملفتا للانتباه، مشيرا في حديثه للجزيرة نت إلى أنها كانت ترتبط بـ"كاريزما" وشخصية أعيان وشيوخ البلد، الذين كانت تزيدهم وقارا، كما أنها ترفع درجة احترام مستهلكها ولا تفارق مجالسهم.

‪امرأة بأحد شوارع تونس تضع النفّة في فمها‬ (الجزيرة)
‪امرأة بأحد شوارع تونس تضع النفّة في فمها‬ (الجزيرة)

من جهته، يقول الباحث في الثقافة الشعبية عبد الستار عمامو إن علب النفّة كانت ترسل مرصّعة بالذهب والفضة هدايا إلى سلاطين تركيا وإلى الأكابر والأعيان، مضيفا للجزيرة نت أنها كانت تُستعمل في الطرق التقليدية للعلاج، حيث يتم وضعها على الضرس المصاب لعلاج الوجع.

غير أن الطبيبة مروى الرابحي المختصة في طب الأسنان ترى العكس، وتقول إن استهلاك النفة يؤدي إلى التهاب اللثة وتآكل عظام الفك، إضافة إلى الترسبات الجيرية، وهو ما يساهم في سقوط أسنان مستهلكها. وتضيف للجزيرة نت أنها تسبّب أيضا في أمراض خطيرة ومزمنة على غرار أمراض الأوعية الدموية وسرطان الرئة.

لا تزال عيون نوية عبد الحليم ترحل كلّ يوم إلى زحام الأسواق الشعبية، حيث رائحة "النفّة" تملأ المكان، لتعيل أسرتها، على أمل أن توفّر لها السلطات في تونس محلا تجاريا صغيرا يقيها برد الجنوب التونسي القارس شتاء وشمسه الحارقة صيفا.

المصدر : الجزيرة