المشاهد المفبركة.. كيف نصدق الصورة بعد الآن؟

أمين حبلا-الجزيرة نت

أنت اليوم تسبح في بحر من المعلومات، تُجبى إليك قصص إخبارية أو كتب أوتحليلات، وقد تأتيك في الغالب صور أو مقاطع فيديو تختزل عشرات المقالات والتحليلات، ولكنك في بحر المصداقية تواجه أيضا سهام الفبركة التي تنطلق في كل اتجاه لتنغرس في جسد المصداقية.

وفي العادة عندما تسمع شخصا يتحدث صوتا أو يظهر في مشهد مصور، تفترض غالبا أنك أمام حقيقة مطلقة، وعندما يشاهد غالبية الناس مقاطع مصورة لجندي يطلق النار على مدنيين أبرياء في منطقة حرب، أو لقطات من فضيحة جنسية لأحد المشاهير، أو مسؤولا حكوميا يتلقى رشوة أو يدخل في مساومة ما مع طرف آخر؛ فإنهم في الغالب يميلون إلى تصديق ما تشاهد عيونهم، وقليل منهم من يطرح أسئلة متعلقة بمصداقية المشاهد المذكورة.

ولكن الواقع هو أن ثقة الناس العمياء بالمقاطع الصوتية والمصورة باتت محل تساؤل وموضع اختبار، في ظل تكاثر التطبيقات وتطور تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي التي وصلت إلى مستويات لم تكن متوقعة في الماضي القريب، من القدرة على التعديل والتزييف والمحاكاة والتشويه.

والواقع أننا نعيش اليوم تحت سيل جارف من تدفق الصور ومقاطع الفيديو التي أصبحت جزءا أساسيا من العملية الإعلامية، تجعل العنصر الصحفي المجرد من صورة، مجرد مادة ميتة لا تستهوي قارئا ولا تشد متصفحا.

وتشير الإحصائيات إلى أن موقع يوتيوب الشهير يشهد كل دقيقة تحميل أربعمئة ساعة فيديو، فيما يتم نشر أكثر من تسعة ملايين صورة ومقطع فيديو عبر إنستغرام، أما واتساب وفيسبوك فالإحصائيات فيهما أكبر من ذلك بكثير.

ووفقا لـ"غريغ ألن" الزميل المساعد في مركز الأمن الأميركي الجديد، فـ"سيواجه الناس في المستقبل المعطيات المرئية والصوتية المزورة والشبيهة بالواقع باستمرار. وبالتالي، سيناضل الجميع لمعرفة ما عليهم تصديقه ومن هو جدير بثقتهم حين يغرقون في دوامة الصورة والصوت والفيديو والوثائق الحقيقية والمزورة على حد سواء. وفي هذا الصدد، تعمل شركة ليريبيرد -وهي شركة تكنولوجيا ناشئة للتعلم العميق ومقرها في مونتريال- على تطوير تكنولوجيا تسمح لأي شخص بإنتاج خطاب شبه واقعي، بالاعتماد على صوت أي فرد بشكل مثير للدهشة".

سيل الصور والفيديوهات
تطورت في الفترة الأخيرة بشكل مذهل أدوات صناعة الفيديو المفبرك، بدرجة باتت تهدد الخصوصية الفردية وتنذر أحيانا بإشعال أزمات سياسية بين الدول وعلى مستوى الأفراد والمجموعات.

ولا تنحصر الفيديوهات المفبركة المنتشرة على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي على المضامين السياسية والاجتماعية فحسب، بل تطال أيضا الجوانب الترفيهية خصوصا منها التي تثير انتباه الناس وتجذب مشاهدات عالية.

وقبل فترة انتشر فيديو لمجموعة من البطات في ألمانيا تقف عند إشارة مرورية بانتظار الإشارة الخضراء قبل أن تقطع الطريق، وقد انتشر الفيديو بين نشطاء التواصل الاجتماعي كانتشار النار في الهشيم قبل أن يتضح أنه مفبرك، وأن شركة ما قامت بإنتاجه لإثارة ضجة على الإنترنت ولفت انتباه الجمهور.

وخلال الشهور الماضية اضطرت شركة واتساب لتعديل وظيفة "إعادة التوجيه" في تطبيق ‫التراسل الفوري الشهير، وذلك من أجل مكافحة نشر الرسائل الكاذبة ‫المتعمدة والفيديوهات المزيفة.

وبموجب التعديلات التي أقرتها الشركة، أصبحت وظيفة "إعادة توجيه الرسائل" في الهند تقتصر على خمسة من المستلمين كحد ‫أقصى، بعدما تمت مشاركة الصور ومقاطع الفيديو في شبه القارة الهندية ‫بشكل يفوق أي بلد آخر في العالم. وقد تسببت الأخبار الكاذبة في الهند والفيديوهات المزيفة ‫التي تم نشرها عن طريق واتساب، في الماضي في الكثير من حالات الإعدام ‫خارج نطاق القانون.

وربما للفت الانتباه إلى خطورة الفيديوهات المزيفة، وسعيا لكشف الأساليب التي يعتمدها البعض في صناعة هذه الفيديوهات؛ قام فريق متخصص في الأمن الإلكتروني من موقع "بزفيد" (Buzzfeed) الأميركي بالتعاون مع فريق محترف في هوليود، بإنتاج فيديو مفبرك للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وهو يشتم الرئيس الحالي دونالد ترامب، وينتقد سياساته بعبارات شديدة اللهجة، باستخدام صوت الممثل الأميركي جوردن بيلي وحركاته.

ويقول الباحث جيف كلون -وفقا الموقع ذاته-  إن "الناس يرسلون لي صورا حقيقية تدفعني للتساؤل عما إذا كانت مزيفة، وفي حال أرسلوا لي صورا مزيفة، أفترض أنها حقيقة نظرا لجودتها العالية".

وباتت مقاطع الفيديو والصور تمثل الجزء الأكثر تأثيرا في صناعة الرأي العام وتغيير العقليات وبث الأفكار والأخبار والشائعات، يكفي فقط أن تعبر صورة عما تريد لتجد في عالم المتلقين قطاعا واسعا مستعدا لتقبله.

ولا يتوقف تزييف الصور ومقاطع الفيديو عند الشركات التقنية، بل تتكشف معلومات بشكل مستمر عن ضلوع أجهزة رسمية ومؤسسات حكومية في تزوير مشاهد معينة لصناعة جزء من صورتها لدى الرأي العام أو لتوجيهه في اتجاه معين.

وقبل أسابيع كشف تحقيق لصحيفة صنداي تايمز ومكتب التحقيقات الصحفية، إنتاج البنتاغون سرا -وبرعاية البيت الأبيض- أفلاما ومنشورات دعائية تروّج لتنظيم القاعدة، بتمويل بلغ 450 مليون دولار بين 2007 و2011.

وتحدث مارتن ويلز -وهو خبير أفلام عمل مدة طويلة في شركة "بول بوتنيغر" الدعائية البريطانية التي استعانت بها القوات الأميركية إبان غزوها للعراق عام 2003- لصحيفة صاندي تايمز ومكتب التحقيقات الصحفية، عن رعب تنظيم القاعدة الذي أنتجه البنتاغون ورعاه البيت الأبيض.

وتبين من خلال التحقيق أنه خلال الفترة من 2007 إلى 2011، دفع البنتاغون 450 مليون دولار لبول بوتنيغر مقابل تزوير أفلام رعب بالعربية ونسبتها لتنظيم القاعدة.

فبركات شهيرة
لا يمكن حصر حالات الفبركة والتزييف التي تقع من حولنا، فنحن بالضرورة نعيش في صراع محموم بين الجودة والتزييف، وبينهما تحصل آلاف الفبركات المصورة بشكل شبه يومي ربما.

في 2016، حصل تهديد متبادل باستخدام السلاح النووي بين دولتين نوويتين هما إسرائيل وباكستان، ولكن تبين لاحقا أن أصل القصة كان فبركة وتزييفا.

ففي 20 ديسمبر/كانون الأول 2016، نشر موقع "أي دبليو دي نيوز" (AWD News) الإلكتروني تقريرا تحت عنوان "وزير الدفاع الإسرائيلي: إذا بعثت باكستان قوات بحرية إلى سوريا بأي ذريعة، فسنمحو هذه الدولة من الوجود بهجوم نووي". وأثار التقرير أزمة بعد أن رد وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف في تغريدة على حسابه على موقع تويتر، قال فيها إن إسرائيل نسيت أن بلاده تملك أيضا أسلحة نووية، ولكن وزارة الدفاع الإسرائيلية سارعت إلى نفي صحة التصريح المنسوب إلى وزير دفاعها واعتبرت أنه مزورا.

ويتذكر الجميع أن أخطر أزمة واجهتها دول الخليج وما زالت مستمرة دون أفق واضح للحل، جاءت إثر فبركة وتزوير، بعد اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية وبث تصريحات منسوبة لأمير قطر في 23 مايو/أيار، وهي التصريحات التي سارعت قطر لتكذيبها ودعت وسائل إعلام إلى تجاهلها.

الحكومات والتزييف الرقمي
يعيش العالم العربي في عمق التزييف، وهو يطال كل المنشآت والقيم والمؤسسات. وعلى مستوى الصورة والفيديو فإن عددا من وكالات الأنباء الرسمية تحتوي على أخبار ومقاطع وصور مزيفة، تعمل على تقديم النموذج الذي تراه السلطة خدمة لأجندتها السياسية.

وما زال سيل الفبركات الذي تدفق مع الأزمة الخليجية يملأ الآفاق؛ فخلال هذه الأزمة تمكن ما يوصف بالذباب الإلكتروني من إنتاج كمية هائلة من المشاهد المفبركة صوتا وصورة، لقلب الحقائق وتشويه سمعة الطرف الآخر.

ومن الحالات التي اشتهرت في السنوات الماضية ما كشفه المدون المصري وائل خليل عام 2010، عن تلاعب صحيفة الأهرام الرسمية المصرية بصورة لوكالة أسوشتيد برس، يظهر فيها الرئيس المخلوع حسني مبارك يسير بخطوات واثقة متقدما على الرئيس الأميركي ونظرائه الإسرائيلي والفلسطيني والأردني، فيما كانت الصورة الأصلية منافية للواقع، حيث كان مبارك يسير خلف الجميع.

لقد أدى الأمر حينها إلى فضيحة واسعة وتأثير سلبي ضد المؤسسة الإعلامية الأشهر في مصر، لكن "الوجه الحجري" لبعض المؤسسات الرسمية لا يأبه لتلك الانتقادات؛ فقد تمكنت الأهرام من امتصاص الصدمة وتواصلت الفبركات بعد ذلك.

لبنان هو الآخر لم يخل من بعض تلك الفبركات، حيث تم إدراج صورة رئيس البرلمان نبيه بري في صورة لأعضاء الحكومة التي تم تشكيلها بعد حالة استعصاء استمرت حوالي سنة، رغم أنه كان مسافرا أثناء التقاط الصورة.

وسرعان ما انقطع حبل التزييف القصير واضطرت الرئاسة اللبنانية ووكالتها الرسمية إلى حذف الصورة من مواقعها، رغم أنها قد أرسلت قبل ذلك إلى الوكالات والمواقع والصحف العالمية.

وفيما تبتلع الصور المفبركة يوميا جدران المهنية وترسل بعض الإعلاميين والمواقع والصحف بسرعة إلى قاع الحضيض، فإنها -هي والأخبار الكاذبة- تسبب بشكل دائم في أزمات عديدة في مناطق عديدة من العالم، ولا يستبعد أيضا أن تساهم في اقتياد العديد من الأبرياء إلى ظلام الزنازين وخصوصا في العالم العربي.

تزوير الأصوات
لا تتوقف الفبركة والتزييف فقط عند الصور ومقاطع الفيديو بل تطال حتى الأصوات أيضا، وربما تعود الناس في السابق على التلاعب بأصوات المشاهير والفنانين من باب الفكاهة أو في فنون السينما، ولكن هذا التلاعب أخذ في الآونة الأخيرة منعطفات أهم وأخطر بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي التي أتاحت إمكانية استنساخ صوت أي شخص وفبركة نسخة أخرى منه مطابقة تماما للأصل.

وتعزيزا لهذه التقنية، فقد كشفت شركة لايبورد الصينية عن برنامج يستطيع صناعة نسخة مطابقة لأي صوت، ولأجل تحقيق ذلك يحتاج هذا البرنامج فقط إلى حوالي ستين ثانية -أو ربما أقل- فقط من الصوت الأصلي.

وللتدليل على مستوى الاحتراف في محاكاة الأصوات الأصلية، بثت الشركة فيديوهات على موقع يوتيوب جرى فيها استنساخ أصوات لمشاهير في عالم السياسة، مثل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.

أدت التطورات التقنية المتلاحقة لانتهاك خصوصية الأفراد وإمكانية استخدام أصواتهم وصورهم دون علمهم (غيتي)
أدت التطورات التقنية المتلاحقة لانتهاك خصوصية الأفراد وإمكانية استخدام أصواتهم وصورهم دون علمهم (غيتي)

ويتذكر الجميع ما قامت به صحيفة التايمز البريطانية قبل عدة شهور حين نشرت مقطعا صوتيا مستنسخا للرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي، باستخدام التقنية ذاتها.

وتعتبر شركة أدوبي سيستمز الأميركية من أهم الشركات اللاعبة في هذا الميدان؛ إذ أطلقت عام 2016 مشروع برنامج جديد يحمل اسم "فوكو" (Adobe Voco)، وهو المشروع الذي أطلقت عليه بعض المواقع الغربية اسم "فوتوشوب الصوت". ويقوم هذا البرنامج على خوارزمية متقدمة تقوم بتحليل ما لا يقل عن عشرين دقيقة من كلام الشخص المراد استنساخ صوته، ومن خلال تلك الدقائق يتعرف البرنامج على الطبقات الصوتية والتركيبة النغمية للشخص المستهدف.

يستطيع برنامج فوكو بعد تحليل صوت الشخص المعني وضع نسخة مصورة منه لاستخدامها في قراءة النصوص وتحويلها إلى مقاطع صوتية مفبركة، تجعل أي شخص يقول بـ"صوته" ما لم ينطقه بلسانه.

ورغم أن هذه النوعية من التطورات التكنولوجية تمثل طفرة مذهلة في مجالها، فإنها أيضا -وبالقوة ذاتها- تبدو مرعبة أو حتى كارثية من الناحية الإنسانية والأمنية، ففي عصر الأخبار المزيفة والخاطئة حيث تتصاعد الشكوى في شتى أرجاء العالم من الصور المفبركة، ها هو هذا العالم يدخل في دوامة أخرى خطيرة اسمها الأصوات المستنسخة بحرفية هائلة.

ففي حال استغلال هذه التقنية في أغراض غير أخلاقية، فإنها قد تفضي إلى تشويه سمعة أي شخص، بل ربما تؤدي إلى دخول أبرياء السجون وذلك نظرا لاحتمال استخدامها في تلفيق اعترافات صوتية ومحادثات مزيفة، أو هكذا يخشى كثيرون.

كيف نواجه التزييف؟
يقدم خبراء في مجال الأمن الإعلامي مجموعة من النصائح المهمة من أجل مواجهة التزييف، من بينها: التركيز والتدقيق في عناصر الصورة والمشهد ووضعية الأشخاص والمكان والزمان المفترض لالتقاط الصورة لمعرفة مدى التناسق بين عناصر المشهد، والتدقيق في اسم الناشر والموقع والتعليقات والتدقيق في أشخاص الخبر والصورة ومناصبهم وفرص وجودهم في وقت واحد ضمن الزمان والمكان المفترض للصورة أو الخبر.

أما  أبرز المواقع الإلكترونية المساعدة في عملية البحث والتقصي عن الأخبار عبر الإنترنت، فهي:

أولا- غوغل: يمكن الاستعانة بمحرّك البحث لإيجاد الصور وما يتعلق بها، ومن خلال البحث تظهر روابط المواقع التي نشرت الصورة وأحجامها وغير ذلك. ونقوم بتحميل الصورة أو لصق عنوان (URL) للصور وطلب البحث من خلال image.google.

ثانيا- موقع "جيفري إيميج ميتاداتا فيور" (Jeffrey’s Image Metadata Viewer): ويستخدم للكشف عن بيانات الصور، مثل تاريخ التقاطها وحجمها وحتى فتحة العدسة المستخدمة فيها ومكان التقاطها.

ثالثا- موقع "فوتو فورنزكس" (fotoforensics) الذي يستخدم الأسلوب الحراري في تحديد مجالات التلاعب في الصور، ويوضحها من خلال تلوين مناطق التلاعب.

رابعا- موقع "ووتش فريم باي فريم" (watch frame by frame): لمشاهدة أشرطة الفيديو واليوتيوب بوضوح مع تبطيء الحركة، وذلك لتفحّص بيانات الفيديو وتفاصيله بدقة.

خامسا- موقع استخراج البيانات الوصفية (Extract Meta Data) الذي يقدم معلومات حول تاريخ نشر الفيديو وتوقيته، ويأخذ صورا متعددة الجوانب لمحتواه تساعد في البحث عن الصور المطابقة في أي موقع آخر، ثم تتبعها.

وتبقى النصيحة الأبرز التي تخرج من ركام المشاهد المزيفة هي ألا تصدق كل ما تراه أو تسمعه، بل كن يقظا متشككا دائما، فالمشاهد المزيفة جعلتنا نبتعد كثيرا عن الحقيقة ونقترب أكثر من "الواقع الافتراضي" الذي تدفعنا التكنولوجيات المتطورة إليه دفعا.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية + مواقع التواصل الاجتماعي