الطبيب: الإدارة العميقة تعرقل مكافحة الفساد بتونس
حاوره من تونس/خميس بن بريك
وفيما يلي الحوار:
دخل قانون حماية المبلغين عن الفساد حيز التنفيذ لكن عديد المبلغين ما زالوا يتعرضون للتنكيل، هل هذا صحيح؟
نعم للأسف تلقينا عشرات الشكاوى من موظفين بلّغوا عن ملفات فساد داخل مؤسساتهم ثم أصبحوا بعد ذلك عرضة للتنكيل الذي يصل في بعض الحالات إلى طرد هؤلاء المبلغين أو توجيه استجوابات إليهم لأسباب تافهة إلى جانب عدم تكليفهم بمهام في عملهم أو تخصيص مكاتب لهم بأماكن غير لائقة وغيرها.
كيف ستتعاملون مع هذه التجاوزات؟
حاليا تشكلت لجنة تتبع الهيئة المستقلة لمكافحة الفساد للنظر في هذه الشكاوى وقد شرعت بالفعل بدراسة هذه الملفات حالة بحالة وذلك منذ ثورة 2011 إلى غاية صدور قانون حماية المبلغين عن الفساد في مارس/آذار الماضي وقد بلغت تلك الشكاوى نحو 90 ملفا، ثم بعد ذلك ستتولى اللجنة ضبط قائمة المبلغين عن الفساد الذين تعرضوا للتنكيل بعد صدور القانون وهم بعشرات الحالات وستحال جميع الملفات للقضاء.
هل بإمكانك أن تحدد أسماء تلك الوزارات أو الإدارات الحكومية التي تعرض فيها مبلغون عن الفساد للتنكيل؟
إنها تشمل مختلف الهياكل العمومية مثل وزارة التربية، ووزارة المالية، ووزارة الفلاحة، ووزارة الصحة، ووزارة النقل وغيرها. بطبيعة الحال نحن نراسل تلك الهياكل لإعلام الوزير أو المدير العام بأن هناك موظفين بلغوا عن فساد وتعرضوا للتنكيل وبالتالي نطلب منهم التدخل لإنصافهم وإلغاء أية إجراءات صدرت ضدهم ولكن للأسف هذا التفاعل الإيجابي ليس موجودا ونحن ننتظر مرور وقت معقول حتى نصعد تحركنا.
ولكن ما أهمية قانون حماية المبلغين عن الفساد إن كان غير ذي فاعلية؟
علينا أن نقر أولا بأن صدور قانون حماية المبلغين عن الفساد في تونس يعتبر انتصارا كبيرا للجهود الوطنية في محاربة الفساد الذي تفشى في جميع المجالات والقطاعات، وذلك باعتبار أنه لا يمكن مقاومة الفساد دون انخراط المواطنين والمبلغين عن الفساد خاصة الفساد الإداري الذي نعتبره من أخطر أنواع الفساد.
أين هو الإشكال إذن؟
الإشكال يكمن أساسا في أن القانون يحتاج لنصوص تطبيقية لتفعيله لكن تلك النصوص لم يصدر منها سوى نص واحد فقط من قبل رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وهذا النص الوحيد يتعلق بتكوين لجنة للنظر في شكاوى المبلغين الذين تعرضوا للتنكيل منذ اندلاع الثورة وحتى صدور هذا القانون. وقد أسندت رئاسة تلك اللجنة إلى رئيس الهيئة المستقلة لمكافحة الفساد وتتكون من ممثلين عن رئاسة الحكومة وممثلين عن الوظيفة الحكومية.
وفي الواقع لا يمكن الحديث عن حماية المبلغين عن الفساد وسط غياب تلك النصوص التطبيقية التي يتعلق بعضها بتوفير الحماية الأمنية للمبلغين الذين يواجهون تهديدات جدية تمس سلامتهم الجسدية، فيما يتعلق البعض الآخر بتوفير الإحاطة الصحية والنفسية بالإضافة لرصد مكافآت مادية للمبلغين عن ملفات فساد داخل الإدارة تجنب الدولة خسائر مالية كبيرة، وهو إجراء معمول به بعدة دول متقدمة ويحفز المبلغين عن الفساد.
في غياب صدور تلك النصوص كيف تفاعلت هياكل الدولة مع دعوتكم للتبليغ عن الفساد؟
لم يكن تفاعل أغلب الهياكل العمومية مع الهيئة المستقلة لمكافحة الفساد تفاعلا إيجابيا. فخلافا لما نص عليه قانون حماية المبلغين عن الفساد بضرورة مد الهيئة بجهات اتصال في كل هيكل عمومي لتنسيق العمل معها فيما يخص ملفات التبليغ عن الفساد، لم يقدم لنا سوى 15 هيكل عمومي فقط في الآجال القانونية من جملة ألف هيكل.
وماذا يعكس غياب التفاعل الإيجابي مع هيئتكم من قبل الهياكل العمومية التابعة للدولة؟
للأسف الشديد هذا يعكس أنه على مستوى الإدارة التونسية لا توجد رغبة للتشجيع على التبليغ عن الفساد وهذا ما كنا استنتجناه منذ البداية عندما طرح مشروع قانون التبليغ عن الفساد وحماية المبلغين عنه للنقاش. آنذاك كان مشروع القانون الحكومي مخيبا للغاية وكان يوحي أن هناك خشية كبيرة من مسألة التبليغ. ثم بعد الاعتراض على مضمونه تمت الاستجابة لمطالبنا وتحسن مشروع القانون 180 درجة واعتبرناه خطوة جيدة.
لكن يبدو أن غياب التفاعل الإيجابي من أغلب هياكل الدولة يعتبر ردة فعل ما أسميها بالإدارة العميقة لأن داخل الدولة توجد إدارة وطنية تتكون من موظفين شرفاء يعملون بإخلاص وتضحية لكن يوجد أيضا موظفون ينتمون للإدارة العميقة ويتخذون من الإدارة واجهة لتحقيق مصالحهم ومآربهم ويسعون لعرقلة مكافحة الفساد.
ألا تدفع سياسة التنكيل بالمبلغين عن الفساد التونسيين إلى اليأس من مكافحة الفساد؟
علينا الاعتراف بأننا حققنا انتصارا بصدور قانون حماية المبلغين عن الفساد ولكن يجب على المواطنين أن يتحملوا معنا هذه المسؤولية في وضع هش ومليء بالتهديدات. هل تعتقد أني بمأمن عن التهديدات أو أني لم أضح على المستوى الشخصي في سبيل الهيئة مع الموظفين الذين يعملون معي وبالتالي يجب أن نقتنع أن هذا الوطن يستحق أن نضحي من أجله وأنه من الطبيعي أن تكون هناك ردة فعل من قبل لوبيات الفساد المتغلغلة في الإدارة لأنها تشعر بأن أيامها أصبحت معدودة وأن هناك هبة وطنية لفضح التجاوزات والفساد.
كيف تقيمون حملة رئيس الحكومة يوسف الشاهد ضد الفساد التي شكك البعض بمصداقيتها؟
لقد منحنا رئيس الحكومة يوسف الشاهد ثقتنا ولا نزال لأننا نعتبر الرجل صادق في هذه الحملة ودعمناه لكننا ما نطلبه منه هو أن يكون هناك تقييم لهذه الحملة التي يشنها وتقييم جهود مختلف الأطراف المتدخلة في هذا الموضوع من حكومة وهيئة مستقلة لمكافحة الفساد وقضاء وهيئات رقابية ومجتمع مدني، لأننا نعتبر أن مكافحة الفساد يجب أن تمضي ضمن الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي أمضى الشاهد على خطتها وميثاقها وبالتالي يجب تقييم هذه الحملة حتى تتحرك الحكومة وفق رؤية واضحة لتفكيك منظومة الفساد.
تم التصديق على قانون الهيئة الدستورية لمكافحة الفساد ولكنك انتقدته، لماذا؟
هذا أيضا من ضمن الإشكاليات التي عشناها فيما يتعلق بقانون الهيئة الدستورية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد الذي كان دون المأمول وكانت هناك رغبة واضحة من قبل اللوبيات الحزبية داخل البرلمان لتحجيم صلاحيات الهيئة.
لقد فهمنا أن هناك خشية حقيقية من هيئة مكافحة الفساد وهذا مؤشر إيجابي لأنه يدل على أن الهيئة بصدد تحقيق نتائج بكشفها عن ملفات الفساد وهي نتائج أصبحت تقض مضاجع المفسدين، لكن بالوقت نفسه هو مؤشر سلبي لأن القانون صدر نتيجة توافق الحزبين الكبيرين وهما حزب نداء تونس وحركة النهضة وهو مؤشر خطير.
ما مؤشرات الفساد في تونس؟
حسب الخبراء نحن نخسر للأسف نقطتين سنويا جراء استشراء الفساد ونقطتين بسبب غياب آليات الحوكمة الرشيدة والتصرف بالمال العام. كما يقدر الخبراء بأن الفساد يكلفنا 20% من ناتجنا الوطني الخام وهو رقم مفزع، كما يكلفنا الفساد فيما يتعلق بالصفقات والشراءات العمومية تقريبا 25% من مجملها، أي تقريبا بقيمة مليار دولار. وهذه الأرقام مخيفة خاصة بالنسبة إلى الاقتصاد التونسي الذي يعتمد على قطاع الخدمات وليس له مصادر كبيرة متعلقة بالثروات الطبيعية رغم كل الجدل الذي يدور حول هذا الموضوع.
الفساد مستشر بشكل كبير ولكن لماذا لم تنجح الهيئة في كشف أي ملف كبير؟ ألا ترون أن ذلك يفقد ثقة التونسي بهذه المؤسسة؟
لا هذا غير صحيح، الهيئة المستقلة لمكافحة الفساد أحالت إلى القضاء أكثر من مئة ملف فساد في جميع القطاعات داخل أجهزة الدولة على غرار الفساد في الجمارك والفساد في قطاع الصحة مثل ملف اللوالب القلبية الفاسدة والوظائف المشبوهة في الصناديق الاجتماعية والخطوط الجوية التونسية وغيرها، وهناك العديد من ملفات الفساد التي أثرناها مؤخرا أصبحت تثيرا جدلا واسعا في وسائل الإعلام مثل ملف اللحوم الفاسدة في تونس.
ما رسالتكم إلى رئيس الحكومة يوسف الشاهد؟
نحن نردد دائما أن الاستثمار في محاربة الفساد هو استثمار مربح وأول مستفيد من مكافحة الفساد هي موازنة الدولة التي تشكو من عجز متنام جراء ارتفاع تضاعف قيمة النفقات. الحكومة اليوم بصدد مواجهة إشكاليات كبيرة تتعلق بتعبئة موارد موازنة الدولة التي تضررت كثيرا جراء تفاقم ظاهرة تهريب السلع والأدوية والسجائر والمواد الغذائية ودخول السلع المقلدة والمغشوشة التي قضت على النسيج التجاري والصناعي، إضافة إلى ظاهرة التهرب الجبائي وكلها إشكالات تضر بالموازنات المالية للدولة المسؤولة عنها الحكومة، وبالتالي ندعو رئيس الحكومة للمضي قدما في الحرب على الفساد ضمن رؤية إستراتيجية واضحة.