فاضحو الفساد بتونس.. التنكيل بدل المكافأة

التنكيل بالمبلغين عن الفساد في الإدارة التونسية واقع مستمر
مشهد عام من تونس العاصمة (الجزيرة نت)

خميس بن بريك-تونس

أرادت السيدة منية الدامي اقتفاء أثر والدها في خدمة شركة السكك الحديدية لما رأت من تعلقه وتفانيه في عمله، لكن رغبتها الجامحة بعد التحاقها بالعمل كدر صفوها مسؤولون قالت إنهم نكلوا بها بسبب كشفها ملفات فساد.

تعيش هذه المرأة الخمسينية اليوم وضعا متأزما بسبب طردها بطريقة تعسفية من الشركة التونسية للسكك الحديدية الحكومية بعدما قضت في خدمتها أكثر من ثلاثة عقود مرت كحلم جميل أفسد صفوه كابوس مزعج.

تعود منية بذاكرتها إلى الوراء حابسة دموع الشوق لعملها، مستذكرة الفراغ الذي كان يتركه والدها في شعورها كطفلة من كثرة حبه للسكك الحديدية قبل أن تقرر بدورها الالتحاق بالعمل بالشركة نفسها لفهم ذلك "العشق".

منعطف حاسم
وقبل تقاعده كان والدها مسؤولا سابقا عن اقتناء قطع الغيار لعربات القطار، وحظي باحترام الجميع بفضل حرصه على اقتناء القطع الأصلية تفاديا لوقوع حوادث، ونهلت منية من إخلاص أبيها كمسؤولة عن مراقبة استخلاص المحلات والأراضي والعقارات التي تؤجرها الشركة للتجار.

منية الدامي طُردت من عملها في الشركة التونسية للسكك الحديدية بسبب كشفها ملفات فساد (الجزيرة)
منية الدامي طُردت من عملها في الشركة التونسية للسكك الحديدية بسبب كشفها ملفات فساد (الجزيرة)

غير أن مسيرتها أخذت منعطفا سنة 2002 بعدما اختبر القدر نزاهتها واضعا بين يديها "عقدا تجاريا تشوبه عدة تجاوزات ارتكبتها مسؤولة بالشركة"، عندئذ قامت منية بالتبليغ عن الفساد، لكن بدل مكافأتها نُكل بها.

ومع هبوب رياح التغيير واندلاع ثورة سنة 2011، انفجرت احتجاجات عمال السكك الحديدية للمطالبة بفضح الفساد في الصفقات وتأجير المحلات وعقارات الشركة، وقتها كانت منية تستعد لإطلاق "رصاصة الرحمة" على المفسدين.

فقدمت منية مع ستة موظفين آخرين ملفات تحوم حولها شبهات فساد لوزارة النقل، "لكن بدل فتح تحقيق لمحاسبة الفاسدين وقع إتلاف لتلك الملفات وتم الكشف عن هويات المبلغين عن الفساد للإدارة العامة للشركة".

ترتسم علامات حزن على وجه المرأة ثم تقول "أستطيع التأكيد أن الثورة لم تمتط بعد سكك الحديد"، معبرة عن استيائها من إفلات مسؤولين "تورطوا في ملفات الفساد قبل اندلاع الثورة ثم عادوا لمراكز القرار".

منية بدأت معركة قضائية طويلة مع الشركة التونسية للسكك الحديدية (الجزيرة)
منية بدأت معركة قضائية طويلة مع الشركة التونسية للسكك الحديدية (الجزيرة)

وتشتكي منية بعد الثورة من تعرضها للتنكيل جراء تبليغها عن ملفات فساد، بعضها نتجت عنه حوادث قاتلة ناجمة على سبيل المثال عن عدم استغلال معدات تم شراؤها في "صفقات باهظة" لتنبيه سائقي القطار عند النوم.

وتؤكد تعرضها للتهجم ومحاولة طردها من قبل موظفين "مأجورين"، وتغيير قفل مكتبها وتجميدها إلى أن طردت تعسفيا عن العمل في فبراير/شباط 2016، لترفع شكوى قضائية إلى المحكمة، وتبدأ معركة قضائية طويلة.

ولسماع وجهة النظر المقابلة أرسلت الجزيرة نت قبل أكثر من أسبوع مكتوبا لإدارة الشركة التونسية للسكك الحديدية للحصول على رد حول هذه القضية، لكن الشركة لم تخرج عن صمتها.

"لوبيات" فساد
وتشمل هذه المعارك القضائية عشرات الموظفين الذين قاموا بالتبليغ عن شبهات فساد دفاعا عن مصالح الدولة، ثم أصبحوا عرضة للتهديد والتنكيل والطرد من وظائفهم، وباتوا معذبين في الأرض بلا رواتب ولا حقوق.

‪شوقي الطبيب: التنكيل بالمبلغين عن الفساد ما زال مستمرا‬ (الجزيرة)
‪شوقي الطبيب: التنكيل بالمبلغين عن الفساد ما زال مستمرا‬ (الجزيرة)

وحول هذه المعضلة، يقول رئيس الهيئة المستقلة لمكافحة الفساد شوقي الطبيب للجزيرة نت إنه رغم صدور قانون يحمي المبلغين عن الفساد "ما زال التنكيل بالمبلغين للأسف مستمرا في بعض الإدارات التونسية".

ومنذ ثورة 2011 وحتى دخول قانون حماية المبلغين حيز التطبيق في مارس/آذار الماضي، رصدت هيئة مكافحة الفساد تسعين ملفا لموظفين أبلغوا عن الفساد ثم تعرضوا للطرد أو التنكيل، بينهم طبيبة بيطرية اكتشفت وجود مرض السل بحليب الأبقار الموجه للاستهلاك.

ويؤكد شوقي الطبيب للجزيرة نت أن هناك خشية كبيرة لدى موظفين بالإدارة من التبليغ عن الفساد، كاشفا عن وجود "إدارة عميقة" تضم "موظفين فاسدين" يستعملون الإدارة كواجهة لتحقيق مصالحهم.

ويرى رئيس الجمعية التونسية لمكافحة الفساد إبراهيم الميساوي أن حملة التنكيل ضد المبلغين عن الفساد هي "رد فعل من لوبيات الفساد لمعاقبة من تسول له نفسه فضح التجاوزات داخل الإدارة التونسية".

ويؤكد للجزيرة نت أن هناك "طبقة تتكون من عائلات نافذة ورجال أعمال وأحزاب ونقابات تعيش من ظاهرة الفساد الإداري"، مبينا أنه تم التطبيع في الإدارة مع ظاهرة الفساد بسبب بقاء القانون "حبرا على ورق".

المصدر : الجزيرة