قرقنة التونسية.. السعف يرسم حدود الأملاك بالبحر
معز الجماعي-جزيرة قرقنة
لا يقتصر الامتلاك في قرقنة على الأراضي والعقارات، وإنما يُسمح لأهالي هذه الجزيرة التونسية بحيازة قطع في عرض البحر مسجلة قانونيا في السجلات الرسمية.
ويروي الشيخ عمر بن عاشور (66 عاما) أنه ورث عن والده قبل ثلاثين عاما قطعة في البحر تتجاوز مساحتها عشرة كيلومترات مربعة. ويستدرك "كان هذا نصيبي من إرث والدي الذي يشاركني فيه إخوتي الأربعة".
لكنه لا يتذكر منذ متى امتلكت عائلته مساحة شاسعة في البحر، توارثها أجداده وتفككت إلى قطع صغيرة بعد حصول الورثة على نصيبهم.
ويضيف عمر أنه أوصى أبناءه بالمحافظة على المساحة ذاتها دون اقتسامها بعد وفاته. ويفسر "تقسيمها سيحولها لقطع صغيرة لن يجنوا منها إلا القليل من الأرباح. بإمكانهم مواصلة العمل المشترك من أجل صيد وفيرٍ يتقاسمون عائداته المالية".
عائلة الشيخ عمر واحدة من آلاف العائلات بقرقنة تمتلك قطعا بحرية، ترسم حدودها بسعف النخيل الذي يتطلب تجديده مرة كل نصف سنة لإبراز المساحات المخصصة لكل شخص.
ويعود تاريخ هذه الإجراءات المحلية بالجزيرة إلى عدة قرون، قبل تسجيلها رسميا في دفاتر الدولة التونسية التي تسمح ببيع وتأجير المساحات ذات الملكية الخاصة بالبحر.
عزوف الشباب
وكان المئات من شباب قرقنة قرروا بيع إرث آبائهم في البحر بعد تخرجهم من الجامعة والالتحاق للعمل بالمؤسسات الحكومية، غير أن ثمة استثناء مثل حالة منير كمون -وهو موظف بنكي- اختار عدم التفريط في أملاك والده وقرر تأجيرها لعدد من بحارة الجزيرة.
ويقول سعيد للجزيرة نت "أنا الوريث الوحيد لعائلتي لكن لم أفكر قط في الاستغناء عن حقوقها رغم عدم درايتي بتقنيات الصيد البحري. نشرت إعلانا على واجهات المحلات في قرقنة قصد كراء القطعة التي أصبحت أمتلكها قانونيا بعد موت والدي".
وسارع العشرات من البحارة بالاتصال بسعيد فور انتشار خبر اعتزامه تأجير قطعته. ويتذكر أنه لم يتوقع أن ثمن الكراء سيبلغ 2500 دولار سنويا، فقد كانت العملية بمثابة مزاد علني لبيع قطعة أثرية بعد تلقي عروض مالية متفاوتة من لدن الراغبين في استغلالها.
ويتفق أهالي القرية على المحافظة على مبدأ اقتسام الورثة هذه القطع البحرية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وهو ما يخول للمرأة الحصول على نصيبها المنصوص عليه في القرآن.
بيع وتأجير
ويفيد نقيب الصيادين بالجزيرة منير خشارم بأن عمليات البيع والتأجير تخضع لشروط وإجراءات قانونية مثلها مثل العقارات في البر. ويؤكد خشارم في حديثه للجزيرة نت أن محاكم محافظة الصفاقس نظرت أكثر من مرة في مثل هذا النوع من القضايا بعد لجوء عدد من الأهالي لها أثناء التنازع أو الإخلال ببعض بنود العقود المبرمة بينهم.
ويرى نقيب الصيادين أن "الشارافي" و"المسعى"، كما يحب مالكو القطع البحرية تسميتها، تتميز بطرق صيد تقليدية تمكّن الصيادين من حجز الأسماك دون استعمال الشباك. ويقول مبتسما "نحصل على الأسماك دون اللجوء إلى البحث عنها في عرض البحر. جميع أنواع الأسماك والرخويات في مياه بحر قرقنة تأتي لنا بإتباع خطوط سعف النخيل الذي نستعمله لترسيم الحدود قبل أن تعجز عن المغادرة".
ويتوجه الصيادون في قرقنة فجر كل يوم لجمع ما حجزته القطع البحرية، ونقله إلى اليابسة لبيعه للتجار والمستهلكين.
ويشرف حوالي خمسة آلاف بحار في قرقنة على آلاف القطع، ولا يمنع القانون التونسي إنشاء قطع بحرية جديدة في مساحات غير مستغلة دون المساس بأملاك الآخرين.
لكن عزوف شبان الجزيرة عن الاستثمار في هذا المجال الفريد من نوعه في العالم يعود إلى الكلفة الباهظة لحيازة قطعة بحرية، إذ يتطلب -وفق تقديرات الصيادين- قرابة أربعة آلاف دولار لشراء الآلاف من سعف النخيل وجلبه من واحات الجنوب ثم وضعها بالبحر.