إلى مكة.. مشاهدات على طريق الأشواق

ضيوف الرحمن يتأهبون للطواف ببيت الله الحرام سبتمبر 2015
ضيوف الرحمن يتأهبون للطواف ببيت الله الحرام في موسم الحج الحالي (الجزيرة نت)
أمين حبلا-مكة المكرمة

حين دلفنا إلى قاعة انتظار رحلة الخطوط السعودية المتجهة من الدوحة إلى جدة كانت القاعة تتشح بالبياض
، وحين هبطت بنا الطائرة في مطار جدة كانت الأرض بيضاء، لا شيء غير البياض يكسو الأجسام وينساب على وجوه تريد أن يعمر البياض والبشر والمغفرة قلوبها.

آلاف الحجيج تقذفهم مئات الرحلات يوميا إلى مطارات المملكة العربية السعودية وخصوصا مطاري جدة والمدينة المنورة.

وفي مطار جدة الرئيسي الذي يستقبل العدد الأكبر من حجاج بيت الله كما في طرقاتها المتجهة إلى مكة يخيل إليك أن الدنيا حشرت هنا حشرا، لكنها حشرت بيضاء مبتسمة يدفعها الحنين إلى البيت العتيق، وينعكس الشوق على ملامحها.

وحدها كانت تلك الحاجة النيجرية التي اشتركنا وإياها في الرحلة المتجهة إلى جدة، قد دخلت في نوبة بكاء حادة تقطع الأفئدة، لقد ضاع جواز سفرها وهي على أعتاب مصافحة البيت الحرام والانخراط في سلك ضيوف الرحمن.

ملأت السيدة المكان ضجيجا وبكاء قبل أن ينشف أفق الغيب عن نهاية مأساتها، فقد تم العثور على جوازها بين بعض أمتعتها.

تقول تلك السيدة للجزيرة نت -بعد أن انكشف كبتها- لقد ولدت من جديد، كنت خائفة جدا من أن يحال بيني وبين الحج وقد وصلت إلى هذا المكان وأصبحت على مرمى حجر من حنين إلى الكعبة والمسجد الحرام وعلى مقربة من سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

استعادت السيدة نوبة بكاء أخرى ولكنه بكاء الفرح بعد تفريج الغمة.

‪‬ حجاج نيجيريون بمطار حمد الدولي يتأهبون للسفر إلى بيت الله الحرام(الجزيرة نت)
‪‬ حجاج نيجيريون بمطار حمد الدولي يتأهبون للسفر إلى بيت الله الحرام(الجزيرة نت)

طوق أمني
تلك الحركية الواسعة تنعكس أيضا في مطارات الدول المجاورة، على الأقل هذا ما شهدناه في مطار حمد الدولي بالعاصمة الدوحة.

تلبية دائمة ودعاء وتضرع وإقبال إلى الله، هذا يحمل مصحفا، وتلك تحمل كتاب أدعية، وهذا يقرأ في مطوية، وآخر يجأر إلى الله، الكل مقبلون على الله يسألونه قبول العمل وإسعاد الخطوات.

الإجراءات الأمنية أخذت مستويات غير مسبوقة، أصبح معها الدخول إلى مكة رحلة أخرى تستغرق ساعات طوال من الانتظار، يأتي ذلك ضمن سعي السلطات السعودية لتأمين موسم الحج، ومنع المخالفين وغير الحاملين تصاريح رسمية من الحج.

يقول سائق سيارتنا إن دوريات الشرطة ونقاط التفتيش المنتشرة في مداخل مكة، زادت منذ الأمس في تحرياتها وتفتيشها للسيارات، ومنعت الكثير منها من دخول مكة.

ويضيف أنه شاهد العديد من الحالات التي تمت إحالة أصحابها إلى مراكز الإيواء للتحقيق معهم وربما تفويجهم لبلدانهم.

ويقول أحد مرافقينا أيضا إن الجهات الأمنية وزعت دوريات فوق الجبال لترصد المخالفين، وكذا على مداخل في الطرق الالتفافية البعيدة عن الطريق الرسمي.

اللافتات واللوحات التحذيرية من مخالفة أنظمة الحج أخذت مكانها في الشوارع، كما وزعت نشريات تحذر المخالفين بعقوبات مغلظة تصل حد الإبعاد النهائي بالنسبة للمقيمين.

هدوء وأنوار
تستقبلك مكة بصخبها وهدوئها، فالشوارع مكتظة، وعشرات آلاف الحجاج مهللون مكبرون، يملؤون الشوارع يرجون الأفق الممتد معهم، هنا تتذكر أن لكل شبر وحصاة قصة مع الوحي ومع منطلق البعثة النبوية وميلاد الإسلام.

هنا دون شك تتشتت الحواس بحثا عن مطالبها، فللآذان نصيب من هذا الضجيج العذب، الذي يعيد ذكرى أول إذن للأرض نحو السماء، وللعيون من آثار النبوة ومسار جبريل عليه السلام بين الجبال والبطحاء ينقل الأمر والدعاء ويشد عضد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغالب نظاما دينيا واجتماعيا لم تكن جبال مكة أقل قسوة منه.

مكة هادئة مطمئنة، تحنو عليها الجبال من كل جانب وترتفع في سمائها منائر المسجد الحرام، تشق الأفق عاكسة جلال الأرض وهيبة المشاعر والمكان.

ورغم أن مكة ليست أكبر مدن العالم، فإن اتساعها لضيوفها يبدو أسطوريا، فأكثر من مليونين من ضيوف الرحمن يجولون في حيز ضيق يتبادلون البسمات والأدعية، ويتسابقون إلى الله وفدا، يريد تحقيق مآرب شتى وأكثرها غفران الذنوب وتعبيد الطريق إلى الجنة.

في مكة للحاج والمعتمر سعيهما وطوافهما بين المشاعر ولأهلها وتجارها وباعتها المتجولين وأصحاب الخدمات وطوائف من الناس شتى مسعاهم وطوافهم دون أن يعتكر الجو أو يتضايق المتزاحمون على باب الله.

مكة باب الله، ومدينة الأشواق الإيمانية تفتح جناحيها لضيوفها قبل أن تحلق بهم في مراقي النور والدعاء، هنا لا شيء غير الشوق، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.

المصدر : الجزيرة