مهن تموت وأخرى تنتعش في العراق

Iraqi tailor Ashour Hassib, 65, is repairing clothes at his workshop in Baghdad's Rasheed street, Iraq, 26 May 2009. Hassib has been working in the tailoring profession since fifty years and said that most of his customers are primarily poor people who hand in their torn and worn out clothes to have them repaired for a small fee. EPA/ALI ABBAS
undefined

فاضل مشعل-بغداد

لم يعد أحد يطلب خدمات الأسطة خليل المتخصص ببناء طابوق "المقرنصات" البغدادية ذات النقوش والتعرجات التي ورثناها من الماضي العباسي البعيد حيث "استعاض الناس عنها بخيارات جديدة لا شأن لها بطابع المدينة"، وتحوّل فريقه من الفنيين المهرة إلى مجموعة من العاطلين عن العمل.

كان الأسطة خليل (67 عاما) ينفذ بنفسه جميع الأعمال التي توكل إليه، والتي كانت تتم بناء على طلبات مسبقة وتحضير مضن منه شخصيا وبمساعدة فريقه الذي يصفه قائلا "جميعهم مثل أبنائي، أدربهم على حك الطابوق وتلوينه وثبيت النقوش بحسب المساحات المطلوبة. الفكرة تبدأ مني وتنفذ بجهد جماعي مني ومن المساعدين". 

وبنبرة فيها الكثير من الحزن، يقول الأسطة خليل للجزيرة نت "في بغداد هناك مقاه لكل مهنة، مقهى للصباغين وأخرى لأسطوات (جمع أسطة) الإسمنت وثالثة للحدادين، كما توجد مقهى للعاملين في البناء الذي نسميه الجف قيم أو الكربلائي".

المهن التقليدية تعبر عن المرحلة الاجتماعية التي تنتمي إليها (الأوروبية)
المهن التقليدية تعبر عن المرحلة الاجتماعية التي تنتمي إليها (الأوروبية)
وأوضح خليل أن أكثر ما يحزنه هو فراغ المقهى المخصص لزملاء مهنته من الرواد، حيث أصبحت مهنته غير مطلوبة ولا أحد يقبل عليها.

عادات الشعوب
وردا على سؤال بشأن معنى انقراض مهنته، ردّ خليل بنبرة يملؤها الغضب "كل الأشياء الجميلة القديمة انتهت وكأن هناك من يريد أن يقتلها بينما تحتفظ شعوب العالم بطرازها وتقاليدها في فنون البناء وطريقته، كما تحتفظ ببقية أشكال الحياة بتقاليدها الموروثة. صاروا يأتون بقطع مصنوعة على لوح جبسي أو إسمنتي ثم يلصقونها في الفضاءات التي يريدونها حتى تبدو وكأنها من المقرنصات المشغولة باليد. أما نحن فلم يعد أحد يطلب خدماتنا".

 
حزن الأسطة خليل يشبه حزن "روّاف الألبسة"، وهي مهنة يقوم العاملون فيها بإصلاح الأقمشة أو الألبسة التي تعرضت للفتق أو التمزيق، حيث يصلحون الضرر ويعيدون القماش إلى حالته الأصلية وكأنه لم يتعرض لأي تمزيق.

محسن لفتة يعمل "روافا" ويبلغ من العمر 64 عاما، ويشير إلى أن مهنته كانت تمتد إلى أبعد من إصلاح الملابس الممزقة.

ويوضح "لم يتوقف عملنا على إعادة تصليح الألبسة إنما نقوم أيضا بريافة السجاد (اليدوي) الفاخر الذي يصاب بتمزق أو حرق أو بالعث. ولكن الناس ما عادت تلجأ إلينا لأن سوق الألبسة المستعلمة يعج بأنواع رخيصة من مختلف الألبسة لمختلف الأعمار، وأسواق السجاد الميكانيكي الرخيص المصبوغ بالألوان الزاهية غلبت على أسواق السجاد اليدوي الثمين، لذا غادرنا الزبائن".

ويرفض لفتة المفهوم القائل إن التطور سنة من سنن الحياة وله أحكامه وتبعاته التي لا يمكن الهروب منها، فيقول "لا خير في تطور يسرق من الناس عاداتهم وتقاليدهم ويقضي على موروثهم من المهن والحرف التي تعتبر جزءا من طابع المدينة الذي يجب أن يتطور بتطورها. هذا انهيار ليس في مهنة الروافين فقط، بل في مهن أخرى اشتهرت في بغداد".

المهن التقليدية تغيرت حالتها مع التغيرات التي شملت المجتمع العراقي (الجزيرة)
المهن التقليدية تغيرت حالتها مع التغيرات التي شملت المجتمع العراقي (الجزيرة)

التغيير وانعكاساته
ويستطرد لفتة موضحا "خياطة أواني الخزف الصيني الفاخر وترقيعه انقرضت. رياضة الزورخانة (ممارسة هواية المصارعة) وموسيقاها التقليدية انقرضت. صناعة حلوى البادم والبالوته وبيض اللقلق انقرضت".

ويتساءل هذا الرواف عن سبب عدم حفاظ المجتمع على مثل هذه المهن التي "هي جزء من تراث وتاريخ المدينة ورافقت تطورها منذ قرون، وما علاقة هذه المهن بالتطور الذي يتحدثون عنه؟".

ويعاني لفتة من مصاعب في توفير لقمة العيش له ولزوجته بعد أن جفّ مصدر رزقه.

من جهته يقول أستاذ درس المجتمع في جامعة بغداد غافل محسن للجزيرة نت إن "المهن التي انقرضت عبرت عن المراحل الاجتماعية التي مرت، وهناك مهن ظهرت لتعبر عن مميزات مرحلة حكم الأحزاب الدينية وأبطالها يستظلون بالدين والمذهب ويركبون موجة التغيير التي عمت البلاد بعد العام 2003 فانتشرت على نطاق واسع، مثل منظمي الوفود الدينية والقراء والقارئات في المناسبات والأيام الدينية، وهي مهن انظم إليها الآلاف من الشباب والشابات وصارت تدر أرباحا". 

ركام التغيير الذي أصاب العراق منذ 2003 فرض أنماطا جديدة من العادات والتقاليد وأزاح أخرى لها ارتباط بتراث المدينة وتاريخها، وانظم الآلاف من الصناع المهرة والعاملين في الحرف التي عبرت عن ألوان الحياة في البلاد والتي انقرضت إلى قائمة العاطلين، وتخلت البلاد عن نمط كان يميزها عن سواها من البلدان.

المصدر : الجزيرة