متلازمة كارتر
بقلم: والتر راسل
إن مداولاته الطويلة في شأن حرب أفغانستان حالة من حالات الانفصام الرئاسي جديرة بالدراسة، فبعد 94 يوما من المداولات قرر أن يقسم الخلاف قِسمة عادلة: زج بقوات إضافية كما أراد الجنرالات، ودعا إلى أن تبدأ مغادرة القوات في يوليو/تموز 2011 كما تريد قاعدته الليبرالية.
لكن شراع أوباما لا يواجه فقط رياحا سياسية قوية، بل يجد نفسه ممزقا بين مدرستين من مدارس التفكير الكبرى، حكمت السياسة الخارجية الأميركية منذ العصور الاستعمارية.
يرى الهاملتونيون أن على الحكومة الوطنية القوية والجيش القوي أن يتبعا سياسة دولية واقعية، وأن على الحكومة أن ترتقي بالنمو الاقتصادي ومصالح دوائر الأعمال في الداخل والخارج.
ينأى الجيفرسونيون بأنفسهم عن هذا الإجماع في النظرة إلى العالم، ويريدون لبلادهم أن تقلل التزاماتها إلى أكبر قدر ممكن وتفكك الدولة الوطنية الأمنية.
ينزع الجمهوريون المعتدلون إلى أن يكونوا هاملتونيين، وستجد الجاكسونيين في الجناح الذي تمثله سارة بالين في هذا الحزب، فيما يميل الديمقراطيون الوسطيون إلى أن يكونوا ويلسونيين من أنصار سياسة التدخل، أما من هم في يسار الحزب وفي جناحه الحمائمي فجيفرسونيون أكثر وأكثر، يعنيهم الرقي بالديمقراطية في أميركا أكثر ما يعنيهم تصديرها.
بعض الرؤساء بنوا تحالفات بين أتباع المدارس المختلفة، فقد مزجت إدارة بيل كلينتون في تسعينيات القرن الماضي بين المدرستين الهاملتونية والويلسونية، وعندما تصادمت أيدولوجيتاهما، دخلت أفكار هاتين المدرستين في صراع داخلي في إدارته، تجسد مثلا في الموقف من التدخل الإنساني في البلقان ورواندا ومن الأهمية التي يجب أن تعطى لحقوق الإنسان والتجارة من عدمها في العلاقات مع الصين.
كذلك حاول جورج بوش الابن المزاوجة بين الجاكسونية والويلسونية، لكن فشل ذلك وفّر الأجواء التي جعلت انتخاب أوباما ممكنا. فقد كانت هجمات 2001 لحظة مثيرة استيقظت عندها أميركا الجاكسونية لتركز انتباهها على الساحة الدولية، وكانت مواقف الجاكسونيين من الحرب تشكلها أجيال من النزاعات مع السكان الأصليين في أميركا، وقبلها قرون من الحروب الحدودية مع إنجلترا وأسكتلندا وإيرلندا، هؤلاء الجاكسونيون يرون العدو "الشريف" وحده جديرا بحرب عادلة، أما غيره فلا تهم في قتاله التقنياتُ النظيفة.
لكن رد فعل بوش الجاكسوني على الهجمات سرعان ما تبعه تدخل في العراق بدا ويلسونيا. فقد كانت حججه في الإطاحة بصدام تستند إلى تهمتين تلقى صدى قويا لدى الجاكسونيين: أسلحة دمار شامل قيل إن صدام يطورها وصلات وثيقة بالقاعدة. ثم طالت الحرب ولم يثبت لا وجود أسلحة الدمار ولا الصلات بالقاعدة، وانتقل حينها بوش إلى حجة ويلسونية: لم تعد حرب دفاع في وجه خطر داهم أو حربا انتقامية، بل حربا من أجل الديمقراطية في العراق ثم في المنطقة كلها.
لكن تلك هي الإستراتيجية التي قوضت دعمه السياسي في أميركا، فالجاكسونيون لا يحبذون تاريخيا الانطلاق في مغامرات خطرة لنشر الديمقراطية في الخارج، وقد عارضوا عموما التدخل الإنساني في الصومال والبوسنة وهايتي في سنوات بيل كلينتون، لأن شباب أميركا يجب ألا يموت وأموال الأميركيين يجب ألا تنفق لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارج.
استطاع أوباما أن يجمع عناصر قاعدة الحزب الديمقراطي الأكثر معارضة لسياسات بوش، وجعل معارضة حرب العراق محورية في حملته الانتخابية، واستلهم حججا قديمة تضرب بجذورها في الحركات الأميركية المعارضة للحرب بما فيها الحرب المكسيكية الأميركية.
مثله مثل كارتر ينتمي أوباما إلى الجناح الجيفرسوني العتيق في الحزب الديمقراطي، وهو جناح هدفه الإستراتيجي تقليل نفقات أميركا والمخاطر التي تقدم عليها بتقليل التزاماتها، ويؤمن بأن أفضل طريقة لنشر الديمقراطية هي إعطاء المثل في الداخل، وبأن أفضل طريقة لنشر السلم هي الاعتدال في الخارج.
فهو يريد سحب القوة الأميركية من الحدود مع روسيا لتقليص خطر اندلاع نزاع معها، ويحاول في أميركا اللاتينية تطبيع العلاقات مع كوبا وتفادي الصدام مع فنزويلا والإكوادور وبوليفيا، إنه يريد عالما هادئا ليركز على الداخل ويستطيع تفكيك دولة أمنية وطنية وُرِثت من الحرب البارد، وأُعطيت زخما جديدا بعد هجمات 2001.
يرى الويلسونيون أن لا استقرار دائما في عالم تملؤه الدكتاتوريات، لكن الجيفرسونيين كأوباما يرون أن الأنظمة السيئة يمكنها أن تكون رعايا في المجموعة الدولية وتحترم القوانين إذا عُرِضت المحفزات بصورة جيدة. وهكذا فإن سوريا وإيران مثلا لا تحتاجان إلى أن تتحولا إلى دولتين ديمقراطيتين لتتوصل أميركا إلى ترتيبات معهما على المدى الطويل مفيدة للجانبين.
هنا تشبه سياسة أوباما الخارجية سياسة ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر، فهو في أفغانستان والعراق يريد إخراج الجيش الأميركي من حروب مكلفة باعتماد المرادف المعاصر لسياسة "الفتنمة" التي اعتمدها نيكسون، وهو ينفتح على إيران كما تقارب نيكسون مع الصين. وكما بنى نيكسون شراكة بناءة مع الصين رغم ممارسات حرسها القديم داخليا، لا يرى أوباما أن النزاع الأيدولوجي يقود ضرورة إلى علاقات إستراتيجية سيئة مع الجمهورية الإسلامية.
حاول نيكسون وكيسنجر إلهاء أنظار العالم عن انسحابهما من الهند الصينية بدبلوماسية نشطة جعلت واشنطن في قلب السياسة العالمية حتى وهي تقلص تمظهرات قوتها، كذلك تحاول إدارة أوباما استغلال شعبيته العالمية للتغطية على الانسحاب الإستراتيجي من الموقع المكشوف الذي ورثه عن بوش في الشرق الأوسط.
لكن كما بدأ أوباما يكتشف من الآن، فإن أي رئيس يحاول تجريب هذه الإستراتيجية الكبيرة في القرن الـ21 يواجه تحديات عديدة.
أميركا وبريطانيا
لكن مع أفول القوة البريطانية في القرن الـ20، واجه الأميركيون خيارات صارمة، وكان عليهم الاختيار بين تعويض بريطانيا كمحور للنظام العالمي بكل الصداع الذي يعنيه ذلك، أو شق طريقهم في عالم تسوده الفوضى.
وفعلا اتبعت الولايات المتحدة خلال الولايتين الأولييْن لروزفلت سياسات جيفرسونية بالأساس في أوروبا وآسيا وتفادت المواجهة مع ألمانيا واليابان، لكن النتيجة كانت الحربَ الأكثر دموية في التاريخ، ومنذ ذلك الحين أصبح عليها أن تقبل بتحمل طيْف واسع من الالتزامات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتشابكة ربطتها بدورها في مرحلة ما بعد الحرب، وقد حاولت الغريزة الجيفرسونية تشذيب هذه الالتزامات لكن لم يكن سهلا معرفة أين يجب أن يمضي المقص.
بالنسبة لرئيس جيفرسوني، الحرب مسألة خطرة وطريق غير مرغوب فيها لذا يجب عدم دخولها إلا بحذر وبعد مداولات طويلة. أما الهاملتونيون فيعنيهم أكثر تنفيذ القرار بسرعة وأن يخفوا عن الآخرين أي انقسامات بين من يُستشارون في القرار.
لكن أوباما وجد منتقدين على كل الجبهات: الويلسونيون مذعورون لرغبة الرئيس الواضحة في التخلي عن حقوق الإنسان أو الأهداف السياسية في تسوية الحروب. الجاكسونيون لم يجدوا إلا الجبن أو "التردد القلق" تفسيرا لتلكئه في دعم توصيات محترفي الجيش. أما الأكثر صفائية من الجيفرسونيين الانعزاليين الجدد فوصفوا أوباما بالخائن.
هذه الهجمات من كل الجهات حدثت كثيرا في السابق، فسياسة الانفراج التي انتهجها كيسنجر هُوجمت يمينا على أيدي الجمهوريين المحافظين الذين أرادوا موقفا أقوى ضد الشيوعية، ويسارا على أيدي الديمقراطيين أنصار حقوق الإنسان الذين كانوا يكرهون التحالفات الإقليمية الوقحة التي تنطوي عليها عقيدة نيكسون (مع شاه إيران مثلا).
هوغو شافيز
ليس الأميركيون وحدهم من يتحدون السياسة الخارجية الأميركية الجديدة. هل سترد روسيا وإيران على مقاربة أوباما التصالحية بتنازلات مماثلة، أم سيمضون شاقين طريقهم إلى الأمام يشجعهم ما يقرؤونه كضعف أميركي أو قوة تترنح؟
هناك مشكل سياسي آخر يواجه أوباما ويتقاسمه مع كارتر، فلدى كليهما كان الأساس الجيفرسوني يوازنه جزئيا انجذاب شديد للقيم الويلسونية المثالية، وموقع كل منهما كرئيس للحزب الديمقراطي مع خط ويلسوني مميز.
غوانتانامو
لقد بدأ الويلسونيون في معسكر أوباما يدمدمون متذمرين من فشله في إغلاق غوانتانامو بسرعة ومن شغفه بالسرية في تسيير شؤون الحكم، ومن تأييده الفاتر لفتح تحقيق في الانتهاكات التي مورست خلال التحقيقات الأمنية في الإدارة الماضية.
لقد ساعد انشغال الجيفرسونيين في الماضي بتسيير السياسة الخارجية الأميركية بأقل قدر من الأخطار الرؤساء في تطوير إستراتيجيات عظيمة، كفكرة الاحتواء التي طورها جورج كينان مع بداية الحرب الباردة، إذا نجح أوباما، فسيكون لإعادة هيكلته للسياسة الخارجية من التأثير ما لهذه الخطط الإستراتيجية الكلاسيكية.
لكن التأثير الجيفرسوني في السياسة الخارجية الأميركية تراجع في العقود الأخيرة. الأميركيون الآن يرون المشاكل في كل مكان من العالم، وهم كثيرا ما يرون الرد الجيفرسوني خاملا.
بكثير من الوقار والشجاعة بدأ أوباما رحلة صعبة يحفها الشك. وأخشى القول إن الاحتمالات ليست في صالحه، وليس واضحا بعد أن قدراسته الحسدية ومواهبه ترقى إلى مستوى المشاريع العظيمة التي أنتجها رجال مثل جون كوينسي آدامز وهنري كيسنجر، لكن الأكيد أن السياسة الخارجية الأميركية تحتاج إلى مراجعة كبيرة.
في أفضل أحوالهم يوفر الجيفرسونيون عنصر حذر وضبطِ نفس للسياسة الخارجية الأميركية، بما يُتَفادى معه ما يسميه المؤرخ بول كينيدي "التمدد الإمبريالي المفرط"، وذلك بأن يُضمن أن أهداف أميركا تتناسب مع وسائلها. إننا نحتاج هذه الرؤية الآن أكثر من أي وقت مضى.