احتجاجات تشاد.. هل تواجه فرنسا مرحلة جديدة في أفريقيا؟

تُعد تشاد واحدة من أقل دول العالم نموا وأكثرها فقرا وفسادا، وهو ما يفسّره التشاديون في أدبياتهم بأن فرنسا تعمّدت منع التحديث بخلاف ما فعلت في مستعمراتها الأخرى، وعدّتها مصدرا للعمالة الرخيصة.

جنود من الجيش الفرنسي على طول الحدود مع مالي والنيجر، يعملون مع القوات المحلية في منطقة الساحل الأفريقي (الفرنسية)

بعد 60 سنة من الاستعمار و60 أخرى من استغلال الشعوب الأفريقية ومقدراتها، تواجه فرنسا رفضا غير مسبوق لاستمرار وجودها في مستعمراتها السابقة. وها هي مالي توقّع على دفتر الخروج الفرنسي، وربما تليها بوركينا فاسو وتشاد ودول أخرى في الغرب الأفريقي.

فهل نشهد خريفا ساخنا عنوانه خروج الدول الأفريقية من عباءة فرنسا المهترئة والممعنة في تحقير واستغلال أفريقيا؟

في الأيام الأخيرة، نظمت جمعيات وأحزاب تشادية معارضة مظاهرة للمطالبة بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي في أراضيها، وإنهاء تدخل باريس في شؤونها الداخلية.

ووفق وزارة الأمن التشادية، حطّم متظاهرون محطات خدمة السيارات التابعة لشركة "توتال" الفرنسية. واستمرت المظاهرات 3 أيام على الأقل، وشملت عدة مدن بالإضافة إلى العاصمة نجامينا واعتقل فيها العشرات، بينهم 5 من قيادة المجتمع المدني الذين شاركوا في التظاهر.

U.S. says Chad rebels heading towards capital from north
دبابة وسط العاصمة التشادية نجامينا، حيث تصاعدت الاحتجاجات المناهضة للوجود الفرنسي مؤخرا (رويترز)

ما الذي حرّك الاحتجاجات ضد فرنسا في تشاد؟

تقف وراء الاحتجاجات عدد من البواعث والأسباب لا تبدأ بإهمال فرنسا واستغلالها لتشاد منذ مطالع القرن الـ20 وبداية الاستعمار ولا تنتهي بضبابية الأوضاع الراهنة وغموض المستقبل بالنسبة للتشاديين، فضلا عن المخاوف الحقيقية والعميقة من التدخلات الفرنسية. ومن أسباب الاحتجاجات أيضا:

  • نظر العديد من التشاديين لفرنسا كقوة شريرة وليس حليفا. وينطلق ذلك من معرفتهم لفرنسا وتاريخها الاستغلالي لبلادهم داخليا وخارجيا.
  • استمرار الحكم العسكري الاستبدادي في تشاد لفترات طويلة بحماية فرنسا كما فعلت في عدد من الدول في غرب أفريقيا (أنقذت فرنسا الرئيس الراحل إدريس ديبي من السقوط في 2006 و2008 و2019).
  • يعد التشاديون أن فرنسا هي الداعم الرئيسي للمجلس العسكري الحالي بقيادة محمد كاكا، كما يتهمونها بأنها هي من هندست توليه الحكم.
  • قناعة المعارضة بأن المجلس العسكري ومن خلفه فرنسا يشترون الوقت وغير جادين في ملف الحوار والمصالحة الوطنية بعد تأجيلها وطلب التمديد للمجلس العسكري، ما زاد التوتر.
  • تواتر أنباء عن نية فرنسا إنشاء 5 قواعد جديدة في تشاد إضافة للقواعد القديمة فيها؛ وهو ما نُظر إليه كمحاولة لتعويض خروجها من مالي ولضعف وجودها في أفريقيا الوسطى، ما يعني لدي التشاديين تضاعف المعاناة واستطالتها.

من يقف وراء الاحتجاجات ضد فرنسا؟

يقود الاحتجاجات تحالف يُطلق عليه اسم "واكت تاما" ويعني بالعربية المحلية في تشاد "انتهى الوقت"؛ وهو تحالف من أحزاب سياسية وجماعات مدنية معارضة للمجلس العسكري تدعمه قطاعات عريضة من التشاديين الذين يرون الوقت قد حان للتخلص من الهيمنة الفرنسية الممتدة لأكثر من قرن، وبالتالي من الهيمنة العسكرية المحلية.

ما مطالب المتظاهرين الرئيسية؟

منذ مقتل الرئيس ديبي الأب حاولت القوى السياسية في تشاد إبعاد الجيش عن السيطرة على الحكم، وطالبت بتولي رئيس البرلمان الرئاسة مؤقتا كما ينص الدستور، ولكن وُضع الجميع أمام الأمر الواقع بسيطرة الجيش على الأوضاع، وهو ما لم توافق عليه المعارضة، ونادت بالتالي:

  • المطلب الأول خروج فرنسا من تشاد، وهو يلخص عددا كبيرا من المشكلات التي تقف وراءها فرنسا منذ فترة الاستعمار، وكانت شعارات الاحتجاجات واضحة "فرنسا ارحلي" و" لا للاستعمار".
  • المطلب الرئيس على المستوى المحلي هو رفض ما يسمونه الانقلاب المؤسساتي بتولي المجلس العسكري الحكم ونيته المبيتة للاستمرار عبر حوار يستوعب فيه بعض الحركات المتمردة من دون التصريح بتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة وعودة الجيش إلى ثكناته.
مدوانات - الرئيس الفرنسي ماكرون والرئيس التشادي إدريس ديبي
الرئيس الفرنسي ماكرون (يمين) والرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي (رويترز)

ماذا تعني تشاد بالنسبة لفرنسا؟

تعد تشاد العمود الفقري للإستراتيجية الفرنسية وسط أفريقيا، وهي ساحة مفتوحة لتدخلات فرنسا بإذن وبدون إذن، فضلا عن كونها نقطة انطلاق لها لمراقبة منطقة الساحل والصحراء في أفريقيا.

وارتبطت تشاد مع فرنسا بعد الاستقلال باتفاقية مساعدات عسكرية متعددة الأطراف فيها دول مثل أفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية والغابون. وأعطت هذه الاتفاقية للفرنسيين قواعد عسكرية ومنحتهم حق مطلق للتحليق فوق البلاد مقابل دفاع فرنسا عن هذه الدول وحمايتها من أي تهديد خارجي.

ما حجم الوجود الفرنسي في تشاد وكيف يُدار؟

احتفظت فرنسا بوجودها العسكري الفاعل في تشاد وأقامت قاعدة في العاصمة نجامينا وأخرى في "أبشّي" شرقا وأخرى في "فايا لارجو" في شمالي البلاد، لكن بعد الاضطرابات التي حدثت في منطقة الساحل وظهور الجماعات المسلحة، تطورت الأمور:

  • في 2013 أصبحت تشاد مقرا لقوات "المهام المشتركة متعددة الجنسيات" والتي ضمّت وحدات عسكرية من كل من بنين والكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا، خاصة بعد تنامي حركة "بوكو حرام".
  • بعد انتهاء عملية "سيرفال" التي انطلقت لمحاربة الحركات الجهادية في مالي، انطلقت عملية "برخان" طويلة الأمد لمواجهة المنظمات المسلحة التي يصفها الغرب بالإرهاب، واتخذت من نجامينا مقرا ومنطلقا لها، وهو ما يراه المحللون مكافأة لتشاد لمشاركتها الفاعلة في العمليات السابقة.
  • أبرزت فرنسا ومعها الولايات المتحدة تشاد كقوة عسكرية إقليمية جديدة لتوظيفها في عملياتها العسكرية في المنطقة، مقابل غض الطرف عن تجاوزات الحكومة التشادية في تزوير الانتخابات وانتهاكات حقوق الإنسان.
  • بعد طردها من مالي أصبحت تشاد قاعدة مركزية للوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا، وهو ما يعزز اتهامات المعارضة لفرنسا بنيتها بناء 5 قواعد في تشاد في ظل تواتر أنباء عن محاولات روسية جادة للدخول إلى تشاد عبر عدد من المجالات مثل الطاقة والنقل، ما يعزز -بالنسبة لفرنسا- أهمية إغلاق أي مدخل للروس الذين يتمددون في أفريقيا.

كيف نقرأ المشهد التشادي الراهن؟

يُراهن المجلس العسكري على الوقت للتمديد وتعويم مطالبات المعارضة بالاستجابة لبعضها التي لا تؤثر على استمراره في الحكم، مستغلا دعم فرنسا بسبب حاجتها له في ترتيب أوراقها التي بدأت تتبعثر على مستوى القارة.

وإزاء ذلك، لا تملك المعارضة التشادية ما يكفي من أوراق ضغط داخلية وخارجية في ظل إنهاك واضح وضعف لخطوط الدعم التقليدية من الجوار، وبسبب العامل الخارجي الذي لا يزال يعمل لصالح المجلس العسكري والجيش على وجه الخصوص في ظل موجات سيطرة للجيوش في طول المنطقة.

وتعد تشاد واحدة من أقل دول العالم نموا وأكثرها فقرا وفسادا، وهو ما يفسّره التشاديون في أدبياتهم بأن فرنسا تعمّدت منع التحديث بخلاف ما فعلت في مستعمراتها الأخرى، ورأتها مصدرا للعمالة الرخيصة وللقطن.

فضلا عن فرضها ورعايتها لأنظمة قمعية استبدادية من أجل تحقيق مصالحها من دون احترام للشعوب، ما جعل منسق منظمة "واكت تاما" يقول "فرنسا نصبت الدكتاتوريين على رؤوسنا، ونحن فقط نطلب احترام شعبنا".

المصدر : الجزيرة