طوله 19 كيلومترا وتكلفته 7 مليارات دولار.. هل يمكن أن تدمر أوكرانيا جسر القرم الإستراتيجي لروسيا؟

التقرير يقدم نبذة تاريخية لخطط إنشاء هذا الجسر منذ عهد القياصرة، ويتحدث عن أهميته من الناحية الإستراتيجية والاقتصادية، وكذلك من الناحية العسكرية، في ظل الحرب على أوكرانيا، كما يذكّر بالحوادث السابقة التي تعرض لها الجسر.

Russian jet fighters fly over a bridge connecting the Russian mainland with the Crimean Peninsula with a cargo ship beneath it after three Ukrainian navy vessels were stopped by Russia from entering the Sea of Azov via the Kerch Strait in the Black Sea, Crimea November 25, 2018. REUTERS/Pavel Rebrov     TPX IMAGES OF THE DAY
جسر القرم حلم راود روسيا منذ العهد الإمبراطوري واستمر كذلك في العهد السوفياتي إلى أن حوّله بوتين إلى واقع (رويترز)

موسكو أعادت التهديدات الأوكرانية باستهداف جسر القرم الشهير تسليط الأضواء مجددا على المنشأة الإستراتيجية التي تعدّها كييف بنية تحتية عدوانية، في حين تعدّها روسيا رئتها الحيوية مع شبه جزيرة القرم.

وكان سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع في أوكرانيا، أليكسي دانيلوف، قال في مقابلة إذاعية إن بلاده تفكر في شن هجوم على جسر القرم، لكنها ليست في وضع يمكّنها من القيام بذلك بعد، مضيفا أنه "لو أتيحت لنا الفرصة فإننا سنفعلها بالتأكيد".

في المقابل، وصف السكرتير الصحفي للكرملين ديمتري بيسكوف تصريحات المسؤول الأوكراني بأنها "إعلان عن عمل إرهابي محتمل، وهو أمر غير مقبول على الإطلاق".

بنية تحتية عدوانية

وهذه ليست المرة الأولى التي تطلق فيها أوكرانيا تصريحات مشابهة، فعشية الاحتفال بافتتاح الجسر من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مايو/أيار 2019 دعا أكثر من نائب في البرلمان الأوكراني إلى تدمير جسر القرم، معتبرين أنه "بنية تحتية للعدو تربط الأراضي المحتلة بالبر الرئيسي للدولة المعتدية".

"دغدغة أعصاب"

يقول العقيد الاحتياطي في الجيش الروسي فيكتور بارانيتس إن "أعداء روسيا" عندما يريدون دغدغة أعصاب موسكو، فإنهم يقولون إن أوكرانيا يمكنها ضرب جسر القرم، وبمجرد أن يفتح أحد المسؤولين الأوكرانيين فمه تحوّل الصحافة الغربية كلامه على الفور إلى ضجة إعلامية كبيرة.

خريطة لشبه جزيرة القرم - الموسوعة
موسكو أعلنت رسميا ضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي عام 2014 (الجزيرة)

ممكن.. ولكن

ويتابع بارانتسيف في حديث خاص للجزيرة نت أنه بعد توريد الأسلحة من الدول الغربية، فقد أصبح لدى أوكرانيا الفرصة لضرب جسر القرم. فقد سلمت الولايات المتحدة لأوكرانيا أنظمة صواريخ "هيمارس" (HIMARS)، التي يصل مداها إلى 500 كيلومتر، وذلك يعني من الناحية الفنية أن الأوكرانيين قادرون على الضرب، بعد تدريبهم على الرماية القتالية من قبل متخصصين من الولايات المتحدة.

ويشير إلى أن الأوكرانيين أنفسهم لديهم صاروخ (RK-360MS) "نبتون" بمدى إطلاق ناري يبلغ 300 كيلومتر. ورغم أنه مصمم لضرب السفن فإنه من الناحية النظرية يمكن استخدامه ضد الهياكل الكبيرة كالجسور، فضلا عن امتلاك كييف أيضا احتياطات من صواريخ "سابسان" (Sapsan).

فضلا عن ذلك، إذا قرر الأوكرانيون حقا ضرب جسر القرم، فيمكنهم استخدام الطائرات الهجومية أو المروحيات، مع عدم استبعاد الاستخدام المكثف لمسيّرات بيرقدار التركية، على حد قوله.

ليس هدفا سهلا

لكنه في المقابل يلفت إلى أن الجسر محمي من مثل هذه الهجمات بواسطة فوجيْن من منظومة صواريخ "إس-400" (S-400) التي تشكل بدورها قبة غطاء جوي يبلغ قطرها 400 كيلومتر، فضلا عن وجود حماية إضافية متعددة المراحل بواسطة أنظمة الدفاع الجوي، بما في ذلك منظومتا "بانتسير" و"تور".

دفاعات محكمة

وردًّا على سؤال عن احتمال لجوء أوكرانيا إلى إرسال مجموعات تخريب تحت الماء لتقويض أعمدة الجسر، أوضح الخبير العسكري الروسي أن تنفيذ هذه المهمة صعب للغاية، إذ سيتعين على مجموعة التخريب سحب نحو نصف طن من مادة "تي إن تي" (TNT) تحت الماء.

وأضاف أنه يجب الأخذ بالاعتبار أن الجسر يحتوي على نظام مكثف للدفاع ضد التخريب (السباحين القتاليين، والقوارب الخاصة وأجهزة الاستشعار الإلكترونية على الدعامات)، وغير ذلك.

رد مؤلم

وألمح العقيد الروسي في ختام حديثه إلى وجود 8 جسور عبر نهر دنيبر في العاصمة الأوكرانية: خطان للسكك الحديد، و3 طرق، وواحد للمشاة واثنان لقطارات المترو، وعلى القيادة الأوكرانية أن تدرك أن المسّ بجسر القرم قد يعني ذهابها إلى العمل سباحة.

موقع إستراتيجي

وكان انهيار العلاقات الأوكرانية الروسية وضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا في العام 2014 قد أفضيا إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في شبه الجزيرة، ومن ثم إحياء مشاريع البنية التحتية الضخمة فيها.

وافتُتح الجسر الذي يبلغ طوله 19 كيلومترا ويربط إقليم كراسنودار على البر الروسي بشبه جزيرة القرم في 15 مايو/أيار 2019، وأنشئ الجسر بميزانية ضخمة بلغت 228 مليار روبل (أكثر من 7 مليارات دولار).

وفي البداية برزت الدوافع السياسية في المقدمة على حساب الجدوى الاقتصادية للمشروع، ولكن مع مرور الوقت ازداد متوسط ​​الكثافة الشهرية لنقل البضائع بعد تشغيل الجسر بين البر وشبه الجزيرة بنحو 4 مرات، وزاد تدفق السياح إلى أكثر من 60% وفق إحصائيات العام الماضي.

شريان حيوي

يبدأ الجسر في شبه جزيرة تامان ويمر على طول السد الحالي الذي يبلغ طوله 5 كيلومترات وصولا إلى جزيرة توزلا، ويعبر مضيق كيرتش، قبل أن يلتف حول بورون من الشمال، ويصل إلى ساحل القرم.

ويتكون معبر النقل من طرق موازية للسيارات والسكك الحديد، ولكن لا تتوفر فيه ممرات للمشاة ومسارات للدراجات.

وبني جسر السكك الحديد عبر مضيق كيرتش في الحرب العالمية الثانية من قبل المهندسين العسكريين السوفياتيين في 150 يوما، لكنه تعرض للتدمير بسبب انجراف جليدي قوي من بحر آزوف، واستعيض عنه من خلال خدمة العبارات عبر مضيق كيرتش.

ومنذ أواخر التسعينيات ناقشت السلطات الروسية والأوكرانية فكرة بناء طريق مشترك وجسر للسكك الحديد عبر المضيق، وفي فبراير/شباط 2014 توقفت المفاوضات بعد التغيير العنيف للسلطة في أوكرانيا. وفي مارس/آذار من العام نفسه تم ما تسميه روسيا بـ"لم الشمل مع القرم"، تبعه إنشاء الجسر الذي استمر حلم روسيا في تشييده بضعة قرون.

البدايات

يُعتقد أن الأمير غليب سفياتوسلافيتش كان أول من قاس المسافة من تامان إلى كيرتش في شتاء عام 1068، بعد أن عبر الجليد من ساحل إلى آخر، وأحصى مسافة تناهز 14 ألف قامة (وحدة قياس آنذاك هي المسافة ما بين قدم الرجل إلى أعلى هامته)، وبالمعايير المعاصرة نحو 30 كيلومترا.

وكدليل على هذا الحدث، أمر الأمير بتركيب حجر رخامي عليه نقش يوثق الحادثة (موجود حاليا في متحف الإرميتاج في سان بطرسبورغ).

وفي عام 1870 رُبط كابل تلغراف كيرتش وشبه جزيرة تامان على طول الجزء السفلي من مضيق كيرتش، وفي 1901 كانت الحكومة البريطانية تدرس مشروعا لبناء خط سكة حديد من لندن إلى دلهي، وتضمن بناء جسر عملاق عبر القناة الإنجليزية وجسر أصغر قليلا عبر مضيق كيرتش.

وتم تخطيط مسار الحركة على طول خط السكة الحديد "العرض 45": لندن – باريس – ليون – تورين – لومباردي – منطقة البندقية – تريست – يوغوسلافيا – رومانيا – أوديسا – نيكولاييف – بيريكوب – دزانكوي – فلاديسلافكا – كيرتش – جسر عبر المضيق – شبه جزيرة تامان – القوقاز. ومع ذلك، لم تتوفر لدى الإمبراطورية البريطانية الوسائل الكافية لتنفيذ الخطة الواسعة النطاق.

الروس أطلقوا عليه اسم مشروع القرن وأصبح الحلقة الوحيدة التي تصل شبه جزيرة القرم بروسيا (الأوروبية)

ظروف معاكسة

في عام 1903 اهتم الإمبراطور الروسي نيقولاي الثاني ببناء جسر عبر مضيق كيرتش، وأمر بوضع مشروع البناء، وبحلول 1910 تم إعداد جميع المخططات اللازمة، لكن الحرب العالمية الأولى في صيف 1914 لم تسمح ببدء البناء. ورغم ذلك، أجريت المسوحات اللازمة على مسار جسر المستقبل خلال الحرب، لكن الثورة البلشفية في عام 1917 عطلت المشروع.

وعادت فكرة بناء الجسر في ثلاثينيات القرن الماضي عندما تم تصميم خط سكة حديد من خيرسون إلى بوتي، ومع ذلك أدى اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى فشل المشروع مجددا.

وفي يونيو/حزيران 1943 ربطت القوات الألمانية "المحتلة" الشواطئ بالتلفريك، وعلى مدى أشهر كانت تنقل ما بين 500 و800 طن من البضائع يوميا من دون انقطاع.

وقد أمر هتلر ببناء جسر للسكك الحديد، إلا أن أعمال البناء توقفت بسبب الوضع المتغير في الجبهات، وقام الألمان بتفجير المنشآت قبل أن تتمكن القوات السوفياتية من تحرير تامان وكيرتش.

ومن المثير للاهتمام أن ستالين خطط بعد تحرير شبه جزيرة القرم لإكمال البناء الذي بدأه الألمان.

وفي عام 1944 بنى السوفيات جسرا للسكك الحديد يربط بين شواطئ مضيق كيرتش، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه مرّ أول قطار فوق الجسر من محطة القرم إلى القوقاز، لكن لسوء الطالع وبعد انتهاء مؤتمر "يالطا" في فبراير/شباط 1945 تسبّب انجراف جليدي قوي في مضيق كيرتش بانهيار 50 من أصل 115 دعامة تحت ضغط الجليد.

وفي سبتمبر/أيلول 1954 أُطلقت خدمة العبارات بين شبه جزيرة القرم وكوبان، وفي العام التالي بدأت عبّارات السكك الحديد بالمرور من ميناء القوقاز إلى ميناء القرم.

لكن الحكومات السوفياتية المتعاقبة رأت أن هذا لم يكن كافيا، وتقرر بناء سد عبر مضيق كيرتش، وفي عام 1986 تم التخلي عن بناء السد والعودة إلى فكرة بناء الجسر، لكنها لم تتحقق هذه المرة بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.

وفي العقد الأول من القرن الـ21، بدأ المتخصصون الأوكرانيون والروس بدراسات ما قبل المشروع لبناء معبر للنقل.

وفي أبريل/نيسان 2008 اتفق الجانبان على البدء في بناء مشترك لجسر عبر مضيق كيرتش، وكان من المقرر الانتهاء منه بحلول عام 2014، وهو ما لم يتحقق بسبب تدهور الأوضاع السياسية في أوكرانيا وما نجم عنه من ترد في العلاقات بن البلدين.

المصدر : الجزيرة