مليء بالفخاخ والمطبات.. يوم وضع أول دستور عراقي جديد بعد الغزو الأميركي

خلافات ونقاشات حادة رافقت إقرار العديد من مواد الدستور، أبرزها الفدرالية والأحوال الشخصية والتشريع الإسلامي

الجدل السياسي بشأن الدستور العراقي لا يزال مستمرا (الفرنسية)

في مثل هذا اليوم عام 2004، صوت ما كان يعرف بمجلس الحكم الانتقالي في العراق على الدستور المؤقت ليمثل النواة الأولى للدستور الحالي. وقد صوّت العراقيون عليه بـ"نعم" بنسبة 78,59% في استفتاء شعبي جرى في أكتوبر/تشرين الأول 2005، وسط جدل سياسي كبير لا يزال مستمرا.

وجاء التصويت عقب خلافات ونقاشات حادة بين أعضاء مجلس الحكم -الذي تشكل بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003- حول العديد من المواد، أبرزها الفدرالية والأحوال الشخصية والتشريع الإسلامي.

طه: المكون الكردي غير راض عن تنفيذ مواد الدستور (الجزيرة)

آراء متباينة

وتباينت الآراء السياسية حول توقيع الدستور المؤقت الذي اعتبر الحاكم المدني للعراق آنذاك، بول بريمر، أن لحظة توقيعه تمثل ميلادا للديمقراطية في العراق، في وقت قاطعه فيه آخرون.

وفي هذا السياق، يقول السياسي ريبوار طه إن القوى الكردية رحبت بالدستور لأن مواده "مهمة وممتازة"، لكن هناك إشكالية في تنفيذ كثير من المواد، لافتا إلى أن المكون الكردي غير راض عن تنفيذ مواد الدستور.

ويبين طه -للجزيرة نت- أنه لا يوجد عمل حقيقي على تنفيذ بعض المواد، فهناك أكثر من 50 مادة في الدستور يجب أن تنظم بقانون، وهو ما لم يتم حتى هذه اللحظة.

من جانبه، يقول العضو السابق في اللجنة القانونية ولجنة تعديل الدستور رشيد العزاوي إن الدستور بحاجة إلى كثير من التعديل، خاصة بعد التجاوزات الكبيرة لمواده وتفسيرها على غير وجهها الذي شرعت من أجله.

ويضرب العزاوي مثالا على ذلك بأنه عندما حاولت المحافظات السنية إنشاء أقاليم، قوبلت برفض سياسي كبير على الرغم من أن المادة 119 تنص على السماح لأي محافظة بتشكيل إقليم جديد إذا ما قدم ثلث أعضاء مجلسها المحلي طلبا بذلك.

كما يرى العزاوي -في حديثه للجزيرة نت- أن التوازن المكوناتي في مؤسسات الدولة الإدارية والأمنية لم يطبق واقعيا، معلقا بالقول إن "هناك كثيرا من المطبات، مثل المادة 76 وما يتعلق بالكتلة البرلمانية التي تشكل الحكومات بعيد الانتخابات، حيث إن فتوى المحكمة الاتحادية كانت بخلاف نص الدستور، وحكمت عام 2010 لصالح ائتلاف دولة القانون الذي فاز بـ89 مقعدا برلمانيا، في الوقت الذي فاز فيه ائتلاف العراقية بـ91 مقعدا، وهو ما يعاني منه العراق حتى الآن".

صورة حصرية مرسلة من قبله - الناطق باسم كتلة صادقون- النائب نعيم العبودي
العبودي يرى أن كثيرا من الألغام في الدستور وهي بذرة للخلافات والصراعات (الجزيرة)

إشكالية المادة 140

رغم اتفاق أغلبية الكتل السياسية على ضرورة تعديل الدستور، فإن الشيطان -كما يقال- يكمن في التفاصيل؛ فتحالف الفتح يرى أنه لا يمكن تحقيق أي إصلاحات حقيقية في البلاد ما لم يتم تعديل الدستور، وهو ما يؤكده نعيم العبودي، النائب عن كتلة "صادقون" (ضمن تحالف الفتح)، إذ يقول إن "هناك كثيرا من الألغام فيه وهي بذرة للخلافات والصراعات، وإن العملية السياسية ستظل غير مستقرة في ظل الدستور الحالي".

ويضيف العبودي -للجزيرة نت- أن بعض الكتل السياسية تعتقد أن الدستور ضمن لها بعض الحقوق وليس من الممكن التنازل عنها، خاصة ما يتعلق بالإقليم والمادة 140 للمناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، حيث لا تزال هذه المادة خلافية.

وبالذهاب إلى الكتلة الكردية، فإنها تؤكد على لسان النائبة فيان صبري -وهي عضوة في لجنة التعديلات الدستورية- أنه على الرغم من المواد الخلافية، فإن الدستور العراقي يعد الأفضل في منطقة الشرق الأوسط، خاصة ما يتعلق بمواد الحقوق والحريات، مشيرة إلى أن المعضلة الرئيسية فيه تكمن في عدم تطبيق نحو 57 مادة، خاصة المادة 140 التي يطالب فيها الأكراد بالمناطق المتنازع عليها في محافظات نينوى وصلاح الدين وكركوك وديالى.

الشمري رأى أن الدستور -منذ ولادته- عبارة عن أزمة بين الكتل السياسية (الجزيرة)

إشكالات وخلافات

وبعد عدة انتخابات برلمانية شهدتها البلاد منذ إقراره، يشير كثير من السياسيين والخبراء إلى أن الدستور بات المعضلة السياسية التي تسببت -ولا تزال تتسبب- في كثير من المطبات والثغرات القانونية، مما يطرح كثيرا من التساؤلات عن إمكانية تعديله، خاصة في ظل وجود لجنة برلمانية تعنى بهذا الشأن.

ويرى رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري أن الدستور -منذ ولادته- عبارة عن أزمة بين الكتل السياسية، إذ عملت جميعها على وضع مصالحها في نصوص الدستور، مما أدى إلى ولادة دستور "هش".

ويضيف الشمري -للجزيرة نت- أن عدم اعتماد الطبقة السياسية الدستور بوصفه مرجعا وحاكما على الخلافات أضر كثيرا بالعملية السياسية، حيث إنه -بعد سنوات من إقراره- بات يتعرض لانتقادات حتى من الأطراف التي أسهمت فيه.

وينبه أستاذ العلوم السياسية طارق عبد الحافظ الزبيدي إلى أن مسودة الدستور التي وزعت على المواطنين العراقيين قبيل الاستفتاء كانت تتكون من 139 مادة، وفي يوم التصويت كانت تتضمن 144 مادة، وهذا يدخل الدستور ووجوده من الناحية القانونية في إشكالية كبيرة، حيث أضيفت 5 مواد بدون علم الشعب.

ويبيّن -للجزيرة نت- أن الإضافات شملت مواد تتعلق بالثقافة والرياضة وإدارة الآثار، ولكن من أبرزها مادة تتيح تعديل الدستور، متسائلا عن مدى جواز التلاعب بمواد الدستور وتغييرها بعد التصويت عليه.

وقد اقتصرت كتابة الدستور فقط على ممثلي إقليم كردستان العراق ووسط وجنوب البلاد، في ظل مقاطعة ممثلي غرب العراق لكنهم حاولوا اختيار بعض النخب حتى يعطوا الدلالة للعالم بأن هذا الدستور كتب برغبة وطنية وشعبية، وليس حسب رغبات مكونات معينة من الشعب، بحسب ما قال الزبيدي.

ظروف ضاغطة

وجاء التصويت على الدستور في ظل ظروف ضاغطة محليا وإقليميا ودوليا، ورافق ذلك مقاطعة القوى السنية لجلسات النقاش بشأن الدستور الذي صيغ على عجالة، بحسب المتخصص في النظم السياسية والدستورية الدكتور عبد العزيز العيساوي.

ويضيف العيساوي -للجزيرة نت- أن الدستور حمل الكثير من الثغرات التي بدأت مساوئها تنكشف اليوم نتيجة لأسباب عدة، أبرزها تدخل سلطة الغزو في وقتها، وإصرار القوى السياسية المتنفذة على تحويل رغباتها إلى مواد دستورية، فضلا عن العامل الزمني الذي كان يدفع باتجاه الإسراع في وضع دستور.

وحول أبرز الخلافات على مواد الدستور، يبين العيساوي أن الفدرالية كانت من أكثر القضايا جدلا خلال نقاشات ما قبل إصدار الدستور، إذ أصر الكرد على تضمينها وسط تخوف كبير من بقية القوى التي رفضت هذه الفكرة جملة وتفصيلا في البداية، إلا أنها عادت بعد ذلك لتوافق عليها بهدف المضي قدما بالحوارات، ولكي لا يتحول الكرد إلى معارضين للدستور كما كان السُنة تلك الفترة.

ويتابع القول إن الدستور لم يتطرق بشكل مباشر إلى ما يتعلق بالأحوال الشخصية، وترك ذلك للبرلمان، إلا أنه شجع على التنافر العرقي بذكر المكونات في أكثر من مادة.

كما اندلع جدل آخر خلال النقاشات بشأن قضية الدين -حسب العيساوي- مبينا إصرار العرب على عده المصدر الأساس للتشريع، وهو أمر كان مرفوضا من قبل الأميركيين، وبعد حوارات مطولة تم التوصل إلى صيغة توافقية هي تضمين الدستور مادة تنص على "لا يجوز وجود نص يتناقض مع الشريعة الإسلامية".

ويلفت إلى وجود نص آخر يتناقض تماما مع النص السابق وهو "لا يجوز وجود نص يتعارض مع مبادئ الديمقراطية". وفتح هذا التناقض باب جدل كبير لم يغلق حتى اليوم، إذ يفسر الإسلاميون الدستور وفق المادة التي تروق لهم وكذلك الآخرون، كما يرى العيساوي.

أبو رغيف: كتابة الدستور جرت بطريقة عاجلة، وتضمنت أخطاء ونواقص كثيرة (الجزيرة)

رفض وتحفظ

ويلفت الخبير الإستراتيجي فاضل أبو رغيف إلى أن كتابة الدستور جرت بطريقة عاجلة، وتضمنت أخطاء ونواقص كثيرة، من بينها أنه لم يميز بين المقترح والتشريع، كما وقعت أخطاء لغوية وإملائية ونحوية، فضلا عن النواقص البنيوية حيث توجد أكثر من 25 مادة ختمت بعبارة "وينظم ذلك بقانون"، وهذا دليل على النقص الحاد في التشريعات التي جعل بعضها تشريعا سائبا.

وفي حديثه للجزيرة نت، يشير أبو رغيف إلى أن تحفظ المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني على الدستور المؤقت لأنه عادة لا يؤيد القضايا التي تكون محل نقاش وجدل، لذلك هو يؤيد في العموميات ولا يؤيد في بعض القضايا الخلافية، والدستور قضية خلافية بدليل أن الكثير من الأمور لم يعالجها، لا سيما المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها التي ألحقت فيما بعد، فضلا عن 3 مواد أخرى ألحقت بالدستور بعد إقراره.

وحول الفخاخ التي تحدثت عنها القوى الرافضة للدستور، يؤكد أبو رغيف أنها كثيرة، ومنها مثلا قضية توزيع الثروات والتشكيل الحكومي واختيار الرئاسات، وهي مواد قابلة للتأويل.

ويعود العيساوي ليذكر ألغاما وصفها بالخطيرة، مثل معضلة الكتلة الأكبر، والمناطق المتنازع عليها، والتداخل بين سلطة بغداد وصلاحيات الإقليم والمحافظات، وآليات تعديل الدستور.

البدراني اعتبر أن أميركا رحبت بالدستور للحفاظ على ماء وجهها في العراق(الجزيرة)

الحفاظ على وجه أميركا

ويعزو الأكاديمي والباحث السياسي الدكتور فاضل البدراني سبب مسارعة الإدارة الأميركية للترحيب بالدستور إلى كونها أسهمت في صياغته، وكانت كل الخطوات تحت إدارة بريمر.

ويرى البدراني -في حديثه للجزيرة نت- أن هدفهم محاولة الحفاظ على ماء وجه أميركا في العراق، وتشريع كل ما هو سلبي على أنه إيجابي، وهو نوع من التخدير للعراقيين وشرذمتهم على أسس طائفية وعرقية.

وبالعودة الى الكتلة المسيحية، حيث يرى يونادم كَنّا أنه في ظل الانقسام السياسي الحالي فإن التعديلات التي تبنتها لجنته لن ترى النور كما هو الحال في اللجان السابقة، فضلا عن أن الدستور ينص في مادته "142- رابعا" على أن التعديل الأول يتطلب عدم رفض ثلثي المصوتين في 3 محافظات لكي يمرر، وبالتالي يصعب تحقيق هذا النصاب.

وتكشف فيان صبري عن مشكلة قانونية أخرى في عمل لجنة التعديلات، إذ إن المادة الدستورية لعمل اللجنة تنحصر بـ4 أشهر فقط من تاريخ تشكيلها، مشيرة إلى أن عاما كاملا مضى على تشكيل اللجنة، مما يتطلب فتوى قانونية من المحكمة الاتحادية العليا المعطل نصابها حاليا بسبب عدم وجود قانون يوضح كيفية تعويض أعضائها المتوفين والمحالين إلى التقاعد، وبالتالي هذه معضلة دستورية أخرى كما قالت.

أما الخبير في القانون الدستوري أمير الدعمي، فيرى أن الدستور كتب على عجالة، وبالتالي كانت النتيجة غموض كثير من مواده.

وفي حديثه للجزيرة نت، قال الدعمي إنه يعتقد أن الدستور لن يعدل، وإن الأسباب هي "شروط تعجيزية في الدستور ذاته، إضافة إلى أن لجنة التعديلات الدستورية الحالية جاءت كمحاولة برلمانية لامتصاص غضب المتظاهرين".

وختم حديثه بالإشارة إلى أنه لا توجد جدية سياسية لتعديل الدستور، مشبها الكتل السياسية بـ"الطفيليات" التي تعيش على الأزمات والتي ليس من مصلحتها الاستقرار السياسي في البلاد، فضلا عن أن الظرف السياسي والاقتصادي الراهن لا يسمح فنيا ولوجستيا بالتعديل.

المصدر : الجزيرة