وسط جدل التراث والهجوم على الأزهر.. محمد عمارة فارس الفكر الحاضر رغم الغياب

محمد عمارة
محمد عمارة (يمين) في لقاء مع الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، والذين شكلوا ما بات يعرف بتيار الوسطية الإسلامية (الجزيرة)

القاهرة- مع تصاعد الجدل في مصر بسبب هجوم إعلاميين وكُتّاب على التراث الإسلامي والمؤسسات الإسلامية، يتذكر نشطاء ومغردون المفكر الإسلامي الراحل محمد عمارة، بوصفه من أبرز الأسماء التي اشتبكت مع الهجوم العلماني على الفكر الإسلامي.

المفكر الذي تحل هذه الأيام ذكرى مرور عامين على رحيله لا تزال كتبه وسجالاته التلفزيونية محل اهتمام واستدعاء من قبل النشطاء، خاصة فيما يتعلق بالدفاع العقلاني عن التراث الإسلامي، مدعوما بالنصوص الدينية والتراثية، فضلا عن جهوده في تفكيك الأفكار العلمانية ذاتها، كونه كان مفكرا يساريا قبل تحوله إلى الفكر الإسلامي قبل عقود.

وشغل الراحل عضوية المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ومجلس البحوث الإسلامية، وهيئة كبار علماء الأزهر، وكان من أشد المدافعين عن مكانة الأزهر، وهو ما جعل العديد من النشطاء يترحمون عليه في ظل تعالي نبرات الهجوم بحق الأزهر وشيخه، بالتوازي مع دعوات لما يوصف بالتنوير وتجديد الخطاب الديني، والذي برزت فيه أسماء غير متخصصين في الدراسات الإسلامية مثل الإعلامي إبراهيم عيسى وإسلام البحيري الذي يصف نفسه بأنه باحث إسلامي وسبق أن قضى عقوبة السجن بعدما أدانه القضاء بتهمة ازدراء الإسلام.

وشهد الشهر الماضي هجوما حادا من إسلام البحيري بحق شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، حيث اتهمه بتبني آراء دينية خاطئة والترويج لضرب المرأة، مما استدعى ردا من الأزهر وتكذيبا لاتهامات البحيري، وانتقادا للمذيع القريب من السلطة، عمرو أديب الذي أفرد وقتا طويلا لكاتب غير متخصص لمناقشة قضايا فقهية وانتقاد شيخ الأزهر، دون وجود ممثل عن الأزهر.

كما أثار الإعلامي إبراهيم عيسى موجة من الغضب الواسع، بعدما أنكر معجزة معراج النبي صلى الله عليه وسلم، وشن هجوما حادا على علماء الدين، قائلا إن المسلم حاليا لا يحتاج إلى عالم دين في حياته، ساخرا بقوله "لا أدري لماذا يتم وصفهم بالعلماء، هل اكتشفوا أو اخترعوا ما يفيد البشرية".

وتولى عمارة الإشراف على مجلة الأزهر الشهرية وجعل منها منبرا للأفكار الإسلامية الرصينة، خاصة مع إرفاق كتاب قيم مع كل عدد من المجلة، وقبيل وفاته بـ5 سنوات تمت الإطاحة به من الإشراف على المجلة، في ظل تصاعد الهجوم والنقد لشريحة واسعة من الكُتّاب والمفكرين بدعوى الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.

ورغم عدم انتماء عمارة تنظيميا لأحد التيارات الإسلامية، فإن منتقديه وصفوه بأنه المنظّر للحركة الإسلامية، وهو ما علق عليه عمارة بالقول "ذلك شرف لا أدّعيه وهم لا يقصدون منه المديح وإنما استعداء السلطات ضدي"، وهو القول الذي يتناقله مؤيدوه حين الحديث عن أفكاره وأبرز أقواله وسيرته الذاتية.

مع الغزالي والقرضاوي

يمتدح محبو المفكر محمد عمارة خلفيته الإسلامية باعتباره من خريجي كلية دار العلوم التي تدرس العلوم الشرعية واللغة العربية، غير أن آخرين يرون أن خلفيته الماركسية كان لها دور كبير في صقل عقله بنظريات الفكر المادي الجدلي، وهي ما منحته تلك القدرة الفائقة على مناظرة منتقدي التراث الديني بنفس أدواتهم وطريقة تفكيرهم، وهو ما افتقده من جادلوا دعاة التنوير مؤخرا، رغم تمكنهم من العلم الشرعي.

من الطرائف التي جرت أثناء فترة تحول عمارة من الفكر الماركسي إلى الإسلامي، وحين سُجن فترة الستينيات، جمع رفاقه الماركسيين في مكان محدد للصلاة، سُمي هذا المكان بـ"مسجد الشيوعيين".

وكان عمارة نفسه هدفا ذات يوم لشيوخ اعتبروه رأس حربة للغزو الفكري الغربي، ومن هؤلاء الشيخ محمد الغزالي الذي ألقى محاضرة عن الغزو الفكري الذي يتمدد في فضاء العالم الإسلامي، وذكر من بين الأسماء محمد عمارة، الذي قال عن هذه الواقعة "صادف أن قرأت مقال الشيخ وفيه اسمي، ولكنني لم أتأثر؛ لأنني كنت أحب الغزالي، ثم بعد أن قرأ الشيخ مجموعة مقالات لي لأول مرة، أرسل إليّ رسالة، وقال لي فيها كلاما هزني من الأعماق".

قال الغزالي لعمارة "قالوا لي عنك إنك تفسر الشريعة تفسيرا ماديًّا، وما كان يليق بمثلي أن يحكم على الرجال من خلال مقالات الآخرين، وإن القليل الذي قرأته لك ردني إلى الصواب في أمرك، ولقد ذهبتُ إلى الذين حدثوني عنك فقلت لهم: هذا عقاد العصر".

وتابع عمارة في تصريحات صحفية "في آخر لقاء بيني وبين الشيخ الغزالي في منزله، أهداني آخر كتبه (نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم)، وكتب لي إهداء (إلى أخي الحبيب د. عمارة داعية الإسلام وحارس تعاليمه) فأحسست أنه يحمّلني الأمانة".

كما ارتبط اسم عمارة باسم الشيخ الغزالي، ارتبط أيضا باسم الشيخ العلامة يوسف القرضاوي الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وشكل معهما فكريا ما بات يعرف بتيار الوسطية الإسلامية.

ووصف القرضاوي عمارة بـ "الحارس اليقظ المرابط على ثغور الإسلام" وهو نفس عنوان الكتاب الذي أشاد فيه القرضاوي بأفكار عمارة ودوره في الثقافة الإسلامية، والتصدي لكل الغلاة.

ويقول القرضاوي إن عمارة لم يتهاون مع الغلاة، ووقف ضد كل فرقهم "غلاة المنصِرين، وغلاة المتغرِبين، وغلاة الماركسيين، وغلاة الأقباط، وغلاة الشيعة، وغلاة المتأوِلين، وغلاة العلمانيين، وغلاة القوميين".

وأوضح أن عمارة شهر سيفه من قديم ضد الغلو والغلاة، وليس له سيف إلا قلمه، مضيفا أنه "كان من الطبيعي أن يقاوم عمارة الغلو العلماني اللاديني، فهذا من صميم رسالته، ولكنه أيضا وقف في وجه الغلو الديني، ولم يتساهل معه، أو يغض الطرف عن آفاته".

وأشار إلى أن عمارة يدعو إلى الوسطية التي تأبى الإفراط أو التفريط، وتوازن بين العقل والنقل، ولا تجعل أحدهما نقيضا للآخر، كما دعا إلى الالتقاء بين الدين والدنيا، وبين الروحية والمادية.

تلك الوسطية التي يقول عنها عمارة إنها "الوسطية الجامعة" التي تجمع بين عناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة فتكوّن موقفا جديدا مغايرا للقطبين المختلفين ولكن المغايرة ليست تامة، فالعقلانية الإسلامية تجمع بين العقل والنقل، والإيمان الإسلامي يجمع بين الإيمان بعالم الغيب والإيمان بعالم الشهادة.

كتابات خالدة ومسيرة حافلة

وسواء في كتبه التي بلغ عددها نحو 74 كتابا ومبحثا، أم في مقالاته أو ندواته ومناظراته، كان أبرز ما يميز فكر الراحل هو إعلاء شأن العقل في تأسيس وترسيخ الإيمان، واعتبار أن الإسلام محفز للعمل والإصلاح والمقاومة وليس للدعة والاستكانة.

ومن أبرز كتاباته في هذا الصدد: الإسلام والسياسة.. الرد على شبهات العلمانيين، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، الإسلام بين التنوير والتزوير، سقوط الغلو العلماني، الإسلام في عيون غربية، قراءة النص الديني بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي، التفسير الماركسي للإسلام.

كما برز الراحل في تحقيق الأعمال الكاملة لرواد الفكر في بدايات القرن الماضي، مثل رفاعة الطهطاوي وعبدالرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وعلي مبارك.

وتبرز من مقولاته اللافتة في هذا الصدد أن "الدعوة إلى تربية الأمّة على خلق الصبر على الظلم وطاعة من يغتصبون حقوقها، ليس من الإسلام، ولا ممّا يتّسق مع روح شريعته الغرّاء".

ورغم تحولاته بقيت ظلال من الفكر الماركسي تمتزج عنده بما يوافقها من الفكر الإسلامي، حيث قال إن "الرأسمالية المتوحشة قد وضعت كل الإنسانية في مأساة عبثية لا أعتقد أن لها نظيرا في التاريخ".

وأعلى الراحل من شأن ودور الأمة في الحضارة بقوله إن "في التاريخ الإسلامي كانت الأمة وليس الدولة هي التي صنعت الحضارة، فحضارتنا صناعة أهلية وليست إنجازا حكوميا"، ورغم ذلك حذر عمارة من افتتان الأمة بخيريتها مؤكدا أن "اعتقاد أن للمسلمين خيرية أمتهم هو اعتقاد مشروط بتحقيق شروط الخيرية، وهي شروط لا يعتقدون احتكارهم لها، بل هم أول الداعين إلى إشاعتها وتعميمها بين الناس".

وفي التصدي للهجوم العلماني قال "إن من حقنا أن نسعد بإسلامنا المستعصي على العلمنة، والمقاوم للاختراق العلماني، والذي ضمن بقاء العلمانيين في بلادنا -بعد قرنين من الدعم الاستعماري- شريحة معزولة تعاني من الرفض، بل والاحتقار".

فلسطين عقيدة

ولم ينس عمارة قضية الأمة الأولى، وهي القدس التي اعتبرها "جزءا من عقيدة أمة يبلغ تعدادها مليارا وثلث المليار، وليست مجرد قضية وطنية لـ8 ملايين من الفلسطينيين، ولا مجرد مشكلة قومية لأقل من 300 مليون عربي، إنها عاصمة الوطن الفلسطيني ومحور الصراع العربي الصهيوني، وفوق كل ذلك أنها عقيدة إسلامية وحرم مقدس".

ولا تنفصل عند عمارة قضية العلمنة عن التغريب عن قضية فلسطين عن قضية التنمية عموما، فيشير إلى ذلك الارتباط قائلا "لمعرفة حجم التمويل -الذي تتلقاه المؤسسات النسوية- يكفي أن نعلم أن المنظمات التي تخدم الأجندة الاجتماعية الغربية في فلسطين حصلت عام 1997 على 5% من إجمالي المعونات، بينما لم تحصل الزراعة والصناعة الفلسطينية إلا على 1.6%".

نشأة علمية

ولد مفكرا، هكذا وصفه تلاميذه ومحبوه، حيث نذره والده للعلم، بحسب ما قاله هو بنفسه عن ميلاده في ديسمبر/كانون الأول عام 1931، في إحدى قرى مركز قلين بمحافظة كفر الشيخ الواقعة في شمال مصر، لأسرة ريفية متوسطة الحال.

يقول عن جذوره إنها تأتي من "السادة"؛ مشيرا إلى أن أباه من "السادة المصريين القدماء"، وأمه من السادة آل البيت، بتعبيره، وبذلك فالأسرة تجسّد عناق مصر مع العروبة والإسلام.

وتابع بالقول في تصريحات صحفية "والدي قبل أن أولد نذر لله تعالى إذا جاء هذا الحمل ولدا أن يسميه محمدا ويهبه للعلم، والعلم في مصطلح القرية في ذلك التاريخ هو العلم الديني، فذهبت إلى المعهد الديني في مدينة دسوق، وكان واحدا من 5 معاهد بمصر كلها".

ثم التحق عمارة بعد ذلك بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، فدرس علوم الشريعة واللغة على يد أساتذة مشهود لهم بالكفاءة والتميز في ذلك الوقت، حيث حصل على ليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية عام 1965، ثم الماجستير في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية عام 1970، والدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية عام 1975.

يقول من زار بيت المفكر الراحل إنه عبارة عن مكتبة بداخلها شقة، وهو أمر ليس بمستغرب على من اقتنى نحو 4 آلاف كتاب، وجاء ذلك على حساب عمله فتأثر بذلك دخل أسرته، فظل بسيط الحال حتى وفاته.

المصدر : الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي