الموت أفضل من السجن.. جدل محاولات الانتحار بالسجون المصرية

صورة ارشيفية مئات المشرعين الأوروبيين والأمريكيين يحثون الرئيس السيسي على إطلاق سراح سجناء الرأي في مصر
الجدل مستمر حول الأوضاع الحقوقية بالسجون المصرية (رويترز)

القاهرة – "الانتحار أفضل من الاستمرار في غياهب السجون" هكذا تناقلت مصادر حقوقية مؤخرا الحديث حول محاولات انتحار بين معتقلين في السجون المصرية، الأمر الذي أثار تفاعلا واسعا بمواقع التواصل الاجتماعي، في وقت تنفي الحكومة المصرية تلك الأنباء مؤكدة على مراعاة أوضاع السجناء الحقوقية.

منتصف سبتمبر/أيلول الجاري، قال المحامي والحقوقي الشهير خالد علي إن الناشط السياسي علاء عبد الفتاح بات يفكر في الانتحار بسبب يأسه من الخروج من محبسه وتزايد الضغوط عليه، مضيفا أنه أوصاه بأن تستعد أمه لتلقي العزاء فيه، لكنه تراجع عن ذلك بعد أيام وقال إن سيواصل مسيرة الصبر والتحمل.

وأعادت رسالة عبد الفتاح التذكير بما نقله نشطاء بداية أغسطس/آب الماضي بشأن محاولة الناشطين السياسيين عبد الرحمن طارق الشهير بـ "موكا" ومحمد إبراهيم "أكسجين" الانتحار داخل محبسهما.

وحسب معتقلين سابقين وحقوقيين تحدثوا للجزيرة نت، فإن محاولات الانتحار تزايدت خلال الشهور الأخيرة، إلا أن أنباء الكثير منها لا تتعدى أسوار السجن، ولا يعرف منها إلا تلك المحاولات التي ينفذها نشطاء معروفون، أو أصحاب حيثية تدفع إلى النشر عنها وتداول أخبارها.

ومن أبرز هذه الحوادث انتحار المدرس الأزهري أسامة مراد في أبريل/نسيان 2019 والذي كان محكوما بالسجن المشدد 10 أعوام. وفي أغسطس/آب من نفس العام، حاول خالد حسن، الحاصل على الجنسية الأميركية، الانتحار إلا أن سلطات السجن تمكنت من إنقاذه.

منتصف أغسطس/آب الماضي أكدت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، عبر صفحتها بموقع فيسبوك، علمها بوقوع العديد من محاولات الانتحار بين نزلاء سجن العقرب شديد الحراسة 1، إضافة إلى إضراب عدد كبير من المعتقلين فيه، بسبب التضييق المتواصل ومنع الزيارات والحرمان من وقت التريض.

علاء والحبس والانتحار

في حديثها للجزيرة نت، تقول الأستاذة الجامعية ليلى سويف (والدة عبد الفتاح) إن الانتهاكات التي تحدث مع نجلها ليس من المفترض أن تحدث مع أي سجين سواء كان سياسيا أو جنائيا أو محبوسا احتياطيا، مشيرة إلى أن هناك سجناء يمنع عنهم زيارة الأهل منذ سنوات.

واعتبرت سويف أن نجلها محبوس بتهم وهمية بسبب معارضته للنظام، وهو مقتنع بمعارضته ويتحمل الجدل حول هذه الاتهامات، لكن لا يمكنه أن يتحمل الجدل حول حقوقه، فكل مسجون من حقه القراءة والتريض حتى وإن كان محكوما عليه بالإعدام.

وعن الخطوات التي اتخذتها الأسرة لوقف تلك الانتهاكات، أوضحت أنها قدمت طلبا رسميا لمصلحة السجون بشأن تنفيذ وعود سبق أن قدموها ولم تنفذ وهي السماح له بالقراءة والتريض، وأيضا المطالبة بنقله من سجن شديد الحراسة 2 لوجود خصومة بينه وبين إدارة السجن، وتحديدا ضابط الأمن الوطني الذي قدم فيه عبد الفتاح شكاوى للنائب العام ولإدارة التفتيش بوزارة الداخلية.

وأوضحت "أم علاء" أن المحامي خالد علي سيتقدم بشكوى ضد إدارة السجن إلى النيابة، كما ستخاطب الأسرة كل الجهات المعنية بحقوق الإنسان في مصر وكذلك المفوضيات المعنية بالأمم المتحدة.

يأتي ذلك بالتزامن مع إطلاق الرئيس عبد الفتاح السيسي "أول إستراتيجية وطنية لحقوق الإنسان" منتصف الشهر الجاري، والتي أعقبها إعلان الرئيس خلال تصريحات هاتفية للتلفزيون الحكومي أنه سيفتتح قريبا مجمع سجون على بـ "نسخة أميركية" في إطار "سياسة الدولة لتحسين أوضاع السجناء" مؤكدا أن الدولة لا تريد مضاعفة عقوبة السجناء بالسجن تارة وبالأوضاع السيئة داخل السجون تارة أخرى.

"نعم فكرت بالانتحار مثل غيري"

وللاقتراب أكثر من أوضاع المعتقلين ودوافع الانتحار، التقت الجزيرة نت المعتقلة السابقة شروق أمجد، والتي أكدت أنها فكرت كثيرا في الانتحار داخل السجن، وخاصة بعد عامها الأول، بسبب اليأس من الخروج، وتعنت القاضي حسن فريد ضدها.

ولفتت إلى أن أشد اللحظات عليها كانت يوم وفاة الرئيس الراحل محمد مرسي في قاعة المحكمة، حيث تم التجديد لها 45 يوما دون العرض على المحكمة، موضحة "عندها انتابتني حالة اكتئاب، ولم أفكر في شيء سوى الانتحار، فأسرتي كانت تعاني معي كثيرا، وهو ما كان يزيد حالتي النفسية سوءا، وكان السبب الوحيد لتراجعي هو أسرتي، لم أكن قادرة على أن أضعهم في ذلك الموقف".

وأضافت شروق "ذات يوم استدعاني رئيس المباحث بعد أن علم بحالتي النفسية وسألني: هل تريدين طبيبا نفسيا، قلت له: لا، لأن الطبيب النفسي الذي عُرض عليه بعض المعتقلات الأخريات لم يسمع منهن، ولم يقدم لهن أي إفادة".

وأكدت أن هناك عددا كبيرا من المعتقلات رغبن في الانتحار وخاصة المحكومات عليهن، ومنهن من حاولت بالفعل، مثل معتقلة محكوم عليها بالسجن 15 عاما حاولت بالفعل لكن تم إنقاذها وكان رد فعل إدارة السجن هو وضعها في غرفة التأديب.

وشددت السجينة السابقة على دور أهالي المعتقلين، لأن هناك أهالي عند الزيارة يشتكون كثيرا من الظروف والأوضاع بالخارج، مما يسبب ضغطا نفسيا أكبر على المعتقلين.

محاولة فاشلة

يقول محمد محمود (اسم مستعار): حاولت الانتحار داخل السجن بعد أن رفض الأمن الإفراج عني رغم أنني حصلت على إخلاء سبيل، وأخفوني قسريا 4 أشهر في زنزانة صغيرة مع نحو 40 من المختفين الآخرين، أغلبهم من كبار السن والمرضى، والذين ترفض إدارة السجن علاجهم.

وفي حديثه للجزيرة نت، يقول المعتقل السابق إنه كان خائفا من التدوير وهو تعبير يطلق على قيام الأمن بتلفيق قضية جديدة لمن تقرر النيابة إخلاء سبيله بالقضية الأساسية، مضيفا "لم يكن أمامي إلا أن علقت نفسي في مشنقة أمام الإدارة لكنهم أنقذوني وأرسلوني لمكان آخر إلى أن حان موعد جلستي وحصلت على إخلاء سبيل وحكم نهائي بعد عام ونصف عام من الاعتقال".

هواجس مبكرة

وفي هذا السياق، يكشف المعتقل السابق سعيد شوقي (اسم مستعار) عن أن فكرة الانتحار تتسع دائرة التفكير بها خلال فترة الاختفاء القسري السابقة للظهور في النيابة، حيث يوجد المعتقل لدى جهاز الأمن الوطني، ويتعرض خلالها لصدمات نفسية وجسدية شديدة.

ويوضح شوقي، في حديثه للجزيرة نت، أن تلك النية تتزايد بعد نجاحه في استراق فرصة حديث سريع (ممنوع في الأساس) مع من سبقوه من معتقلين، حين علم أن عددا منهم قد أمضى شهورا وربما سنوات في مرحلة الإخفاء القسري، دون وضوح نهاية لهذا النفق، مما يفاقم صدمته النفسية.

لكنه يشير إلى أنه رغم اتساع دائرة التفكير في الانتحار خلال هذه المرحلة، فإنه لا يكاد ينجح أحد في تنفيذ المحاولة، كون المعتقل مقيد اليدين طوال تلك الفترة، إضافة لعدم توفر أي وسائل مساعدة، فضلا عن شدة الرقابة المنفذة في زنازين الأمن الوطني.

ويشير إلى أن تلك الخواطر تنحسر بشكل كبير لدى المعتقل بعد إظهاره وعرضه على النيابة وبدء فترة الاعتقال في سجن معروف، حيث ترتفع الآمال في خروج سريع، يعزز ذلك دعم المعتقلين السابقين وبدء الزيارات العائلية والتواصل مع المحامين.

غير أن تلك الخواطر تعاود التسرب مرة أخرى إلى نفس المعتقل الذي تطول فترة اعتقاله، وتتجاوز 6 أشهر، وكلما طالت المدة وتراكمت ضغوط مختلفة، من مشاكل أسرية ومادية، اتسعت دائرة التفكير في الانتحار لدى عدد من المعتقلين، الأمر الذي ينتهي بعشرات المحاولات الفاشلة التي لا تخرج للعلن وأخرى محدودة تنتهي بالوفاة، حسب المعتقل السابق.

أسباب الانتحار وأساليبه

ويعتقد شوقي أن أهم أسباب زيادة محاولات الانتحار مؤخرا هو الدخول في دوامة "التدوير" والإصابة بأزمات وأمراض نفسية ناتجة عن ضغوط السجن المعروفة، ووجود أعداد كبيرة من المعتقلين "العاديين" الذين ليس لهم انتماءات سياسية، لافتا كذلك إلى أن المحاولات يقوم بأغلبها شباب دون الأربعين.

ويكشف المعتقل السابق أن أبرز وسائل الانتحار المتبعة في السجون هي قطع أحد الشرايين بآلة حادة، ومحاولة صنع حبل مشنقة مما يتوفر للمعتقل من ملابس ونحوها، إضافة إلى تناول حبوب دواء بكميات كبيرة، أو تناول مواد كيميائية كالكلور ونحوها.

ويلفت إلى أن من أسوأ تداعيات تلك المحاولات ما تتبعه إدارة السجن في معالجتها للأمر، وهو المنع التام للوسيلة التي تم اللجوء إليها بمحاولة الانتحار، مما يؤثر على معيشة باقي المعتقلين.

وفي هذا السياق، يشير شوقي إلى قيام إدارة أحد السجون بإزالة جميع مراوح الزنازين في الصيف، بعد محاولة انتحار اعتمد فيها المنتحر على مروحة زنزانته، الأمر الذي أدى إلى العديد من حالات الاختناق نتيجة ارتفاع درجة الحرارة.

خبراء نفسيون: العلاج يبدأ من الأسباب

وعن الأسباب النفسية التي تدفع المعتقلين للانتحار، تقول الطبيبة النفسية والناشطة الحقوقية عايدة سيف الدولة: هناك أسباب موضوعية لا تشير بالضرورة إلى وجود مرض نفسي، وإنما إلى أعراض نفسية بفقدان الأمل والمنطق في استمرار الحياة على ما هي عليه، مضيفة أن المعتقل الذي يسعى إلى الانتحار شخص يعاني من آلام نفسية على درجة من الشدة تجعله يشعر أن الاستمرار في الحياة أشق عليه من الموت.

وفي حديثها للجزيرة نت، أكدت الخبيرة النفسية أن البعض ممن يفكرون في الانتحار قد يتحدثون عن فقدان الأمل وضيقهم بالحياة والشعور بالظلم والبحث عن الخلاص، لكنهم قد يكونوا أيضا صامتين، يفكرون في الأمر ويتخذون القرار في صمت وينفذونه في صمت، لذلك فإن الصمت في حد ذاته أو حتى التصرف بشكل طبيعي ليس مؤشرا على أن فكرة الانتحار بعيدة عن ذهن هذا الشخص أو ذاك.

ولفتت إلى أن الوقاية من الانتحار تستدعي في الأصل ألا تتوفر للمعتقل ظروف تدفعه لذلك، فالمحروم من حريته ومن أحبائه وأصدقائه ومن الطعام الجيد والمعاملة اللائقة، والمتعرض للإهانة والتنكيل في غياب آلية تمكنه من الدفاع عن نفسه، هو في الحقيقة شخص تدفعه الظروف دفعا نحو التفكير في الانتحار سبيلا للخلاص.

والمعتقل الذي يفكر في الانتحار عادة ما يشعر أيضا بالذنب نحو أسرته لأنه يشعر أن ذلك يمثل بالنسبة لهم مصدرا للقلق والمعاناة، وقد يخلص من ذلك إلى أن وفاته قد ترفع عنهم هذه المعاناة.

لذلك تطالب الخبيرة النفسية بأن يكون هناك تواصل مع المعتقل ومشاركة لآلامه والحديث معه عن أفكاره وما يدفعه إليها وما قد يثنيه عنها، وهو أمر تحجبه السلطات للأسف عن المعتقلين ومن يقوم بهذا الدور في الحقيقة هم باقي المعتقلين معه، فهم المصدر الرئيسي للدعم والمساندة وهم أكثر الناس إدراكا لحجم المعاناة التي قد تدفع أحدهم إلى اختيار الموت عن أي احتمالات أفضل قد تأتي بها الأيام.

بدوره، يؤكد خصائي الطب النفسي والعصبية والإدمان محمود إسماعيل أن من أسباب الانتحار الاضطراب الشديد، موضحا أن هناك أعراضا تظهر على الشخص الذي يريد الانتحار، وهي الوحدة والعزلة والاكتئاب الشديد وقلة الكلام والنوم وفقدان الشهية والانطوائية وعدم الاهتمام بالمظهر الخارجي.

وفي حديثه للجزيرة نت، طالب إسماعيل بالدعم النفسي للشخص الذي يظهر عليه أعراض الاكتئاب، داعيا أهالي المعتقلين إلى زيارة ذويهم بشكل دوري، وتشجيعهم على إكمال الدراسة أثناء حبسهم والمطالبة بعرضهم على أخصائي طب نفسي.

الوضع القانوني

وحول علاقة القوانين واللوائح بالانتحار في السجون، يقول المدير التنفيذي للشبكة المصرية لحقوق الإنسان أحمد العطار: لا يوجد حصر كامل لعدد محاولات الانتحار، لكن الأمر أصبح أخطر في المرحلة الأخيرة، موضحا أن صعوبة الحصر ترجع إلى أسباب عدة أبرزها أن السلطات دائما ما تنكر وقوع أي حالات انتحار نتيجة الإهمال المتعمد بمنع الدواء والعلاج، وأيضا بسبب امتناع المعتقلين عن الحديث حتى لا يتسبب ذلك في ألم نفسي للأهالي.

وفي حديثه للجزيرة نت، لفت العطار إلى حالة الطفل السيناوى عبد الله بو مدين الذي وثقت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان محاولته الانتحار داخل قسم شرطة ثاني العريش، عبر ابتلاع عدد كبير من أقراص الدواء ولكن تم إنقاذه، موضحا أنه من الصعب حصر أعداد من أقدموا على عمليات الانتحار.

ويرى الناشط الحقوقي أن السلطات لم تتعامل بجدية وحزم مع الأنباء حول زيادة محاولات الانتحار، فهي تملك تخفيف الضغوط والانتهاكات وإخلاء سبيل عشرات الآلاف من المعتقلين المحتجزين رهن الحبس الاحتياطي غير المبرر، كما أن النيابة العامة لا تتخذ إجراءات حاسمة ضد القائمين على هذه الانتهاكات، بحسب وصفه.

رسالة استغاثة

بدورها، ترى سلمى أشرف مديرة منظمة هيومن رايتس مونيتور (HUMAN RIGHTS MONITOR) أن خروج كثير من المعتقلين مصابين بأمراض بعضها خطير، لم يكونوا مصابين بها حال اعتقالهم، يعطي مؤشرا لما قد يدفع البعض لمحاولة الانتحار، معتبرة أن الحرص على خروج أخبار تلك المحاولات يمثل رسالة استغاثة مفادها "إذا لم تنقذونا فسنقتل أنفسنا".

وفي حديثها للجزيرة نت، أكدت سلمى أن افتقاد المعتقلين وسائل الضغط، كالإضراب، يعتبر أبرز عوامل زيادة محاولات الانتحار، ويمثل محاولة أخيرة للفت النظر، مع شعور بأن الموت خيار أفضل من الاستمرار في هذه الظروف الصعبة.

ويتفق الحقوقي والإعلامي هيثم أبو خليل مع الرأي السابق بشأن فقدان المعتقلين وسائل الضغط على السلطات لتحسين أوضاعهم، وفي مقدمة ذلك الإضرابات التي لم يعد يلتفت إليها أي طرف، مع انسداد أي أفق لحلحلة أوضاع المعتقلين.

وفي حديثه للجزيرة نت، أشار أبو خليل إلى أن الندرة الشديدة لحالات الإخلاء الشرطي والعفو السياسي بحق المعتقلين السياسيين، مقابل اتساع هذه الدائرة بحق الجنائيين، كان له دور كبير في حالة اليأس التي وصل إليها المعتقلون مما يدفعهم لمحاولة الانتحار.

المصدر : الجزيرة