بين خطر الإخلاء وفوضى الترميم وغياب الدولة.. أين وصل إعمار بيروت بعد انفجار المرفأ؟

باحثة لبنانية تقول إن "ثمة عملية سطو ممهنج على بيروت، مدنيا وسكانيا وعمرانيا، لصالح أمراء الأحزاب والطوائف ورجال الأعمال"

الترميم في حي الجميزة - الجزيرة
الترميم في حي الجميزة ببيروت لم يكتمل رغم مرور عام على انفجار المرفأ (الجزيرة)

بيروت- كاد انفجار مرفأ بيروت أن يمحو معالم المدينة عمرانيًا وتراثيًا، وهدد نسيج أهلها الاقتصادي والاجتماعي، إثر تشريد عشرات آلاف الأسر التي تتقلب وحيدةً بين تضميد جراحها والحزن على شهدائها، وبين الخوف من حاضرها وغدها، في بلدٍ غير محصن بشبكة أمان للضحايا والمتضررين.

الأحياء السكنية المتاخمة للمرفأ، كانت النطاق الأكثر تضررا ببيروت. وعند التجول فيها، من الكرنتينا إلى الجميزة ومار مخايل والرميل والأشرفية، تتجلى الانتكاسة؛ عشرات الأبنية المتضررة ما زالت، بعد عام من الانفجار، مدعمة بالأعمدة الحديدية.

بعض الأبنية الآيلة للسقوط، طُبع عليها "ممنوع الدخول". ومئات البيوت، فارغة من ساكنيها، لأن عمليات الترميم الخجولة والمتفرقة، لم تشملها. أما بعض المقاهي، ففتحت أبوابها للعمل بما تيسّر، رغم الانهيار الاقتصادي وخسارة الليرة أكثر من 95% من قيمتها، ووسط إقفال مئات المحال التجارية. ولعل هذه المشاهد الطارئة على بيروت، دفعت كثيرين لوصفها بـ"مدينة الأشباح"، التي خسرت صخب نهارها وسحر ليلها.

السيدة رحمة الأسعد مهددة بالإخلاء من مالك المنزل في الكرنتينا - الجزيرة
اللبنانية رحمة الأسعد يهددها المالك بالإخلاء من المنزل المستأجَر في الكرنتينا (الجزيرة)

تعاظم القلق

داخل منزلها بالكرنتينا، تصارع رحمة الأسعد (63 عامًا) إصابتها بالسرطان، إلى جانب معاناتها مع زوجها المسن الذي أصيب في ظهره جراء الانفجار.

دمّر الانفجار منزل الأسعد الذي سكنته منذ 15 عاما، فـ"لم يبقَ شيء من أثاثه ولا حتى ثيابنا". وبعد أن بادرت إحدى الجمعيات المحلية لترميمه جزئيا، يطالب صاحب الملك بإخلائه، تمهيدا لتأجيره لسكان جدد بالدولار وليس بالليرة.

وقالت رحمة الأسعد -للجزيرة نت- "فتشنا كثيرا فلم نجد بيتا مناسبا لدخلنا الذي لا يتجاوز مليون ليرة (نحو 50 دولار) شهريا، ونشعر أننا متروكون بلا مأوى".

وتنسحب المأساة على النازحين واللاجئين، ومنهم السوري أبو محمود (43 عاما)، الذي كان يسكن بالجميزة مع عائلته، فصار يتحرك مستعينا بالعكاز نتيجة إصابته البليغة بظهره وقدمه، ولم يعد قادرا على العمل، وانتقل للسكن عند أقاربه. وقال -للجزيرة نت- إن "صاحب الملك رفض ترميم منزلنا المدمر، وطالبنا بإخلائه، ولم توفر لنا أي جهة مسؤولة سكنًا بديلًا أو مؤقتًا".

السوري أبو محمود الذي أصيب بالانفجار - الجزيرة
السوري أبو محمود أصيب بالانفجار وفقد مسكنه (الجزيرة)

الغموض

وبعد مضي عام على انفجارٍ جسّد مأساة اللبنانيين، وسقط فيه نحو 200 قتيل وأكثر من 6 آلاف جريح، لم تبادر السلطات لإعلان أرقام رسمية عن حجم الخسائر المادية، والتي تقدر بمليارات الدولارات، كما لم تكشف عما أنجز في عمليات الترميم.

ويربط مراقبون الأداء الرسمي بالتقصير والإهمال وغياب الشفافية، ليبقى الارتكاز على بعض الأرقام النقابية والدراسات الخاصة. فمن بين نحو 200 ألف وحدة سكنية دمرها الانفجار، ما زال أكثر من 70% منها لم يرمم بعد، وفق تقديرات غير حكومية.

ويتحدث أحد المهندسين المشرفين على ورش الترميم، عن 3 عوامل تعيق الإعمار؛ أولها غياب مؤسسات الدولة المعنية عن الإشراف الميداني، وثانيها وجود عدد كبير من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية تساهم بالإعمار بلا تنسيق بينها.

أما العامل الثالث فهو أن من بادر بالترميم على نفقته، يواجه مصاعب بتوفير بعض المواد الخاصة، وتحديدًا للمباني الأثرية، بسبب غلائها وتسعيرها بالدولار، مع صعوبة العثور على يد عاملة متخصصة بهذا الشأن.

لكن، كيف نحمي سكان المناطق المتضررة من تفجير مرفأ بيروت وندعم إعادة تأهيلها؟

هذا السؤال، كان عنوان دليل صدر مؤخرا عن "استوديو أشغال عامة"، وهو مركز أبحاث وتصميم يُعنى بالقضايا المدنية والعمران بلبنان.

وتشرح الباحثة في مركز الاستوديو وإحدى مؤسسيه، نادين بكداش، النتائج التي توصل إليها، مبينة أن إعادة تأهيل المناطق المتضررة يواجه مخاطر عدة؛ كاستغلال الدمار لتحريك شبكة من المصالح المرتبطة بالمضاربات العقارية وقطاع البناء.

وأصدر البرلمان اللبناني في أكتوبر/تشرين الأول 2020، قانون "حماية المناطق المتضررة نتيجة انفجار مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها".

لكن بكداش قالت -للجزيرة نت- إن القانون يفتقد لأي سياسة أو رؤية لإعادة الإعمار، ويعتمد على مقاربة تخلو من الشقين الاقتصادي والاجتماعي، وتختزل العمران بالعقارات، لتصب بمصلحة المستثمرين.

ورغم أن القانون دعا إلى إنشاء "لجنة تنسيقية لمسح الأضرار والإغاثة والتعويض"، فإنها لم تتشكل بعد و"يقتصر نظام تشكيلها على الجهات الرسمية، ولا يضمن تمثيلًا للمتضررين، تعزيزا للشفافية والتشاركية".

الانفجار غيّر ملامح الأبنية التراثية - الجزيرة
الانفجار غيّر ملامح الأبنية التراثية في بيروت (الجزيرة)

الأبنية التراثية

ويصنف عدد كبير من الأبنية المتضررة كمباني تراثية، ويعود بناؤها للعهد العثماني والانتداب الفرنسي. وعقب الانفجار، أفادت أرقام مديرية الآثار بوزارة الثقافة، بوجود نحو 640 مبنى تاريخيا، عبارة عن مساكن ومتاحف وقاعات فنون ومواقع دينية. وتبعا لنقابة المهندسين، فإن 362 عقارا معروفا على أنه من المباني ذات الطابع التراثي، لحق بهم الدمار.

وتشدد الباحثة بكداش على ضرورة عدم حصر التراث في المباني؛ لأن "بيروت خسرت بالتوازي النسيجين العمراني والاجتماعي، غير المنفصلين، ولا يمكن حماية واحد دون الآخر".

وتعتقد الباحثة أن ثمة جهات تسعى لتسليع تراث بيروت، ولو كلّف إقصاء الناس. وعليه، يقترح "استديو أشغال عامة" بعض الأساسيات الملحة لإعادة الإعمار، ومنها وضع معايير واضحة وعادلة لتقدير حجم الأضرار، واعتماد آلية شفافة للرقابة على المساعدات.

وكذلك وضع أطر للوصول إلى المعلومات المتعلقة بالتعويضات، وعمل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية (المحلية والدولية) المعنية بسياسات إعادة الإعمار. ومنع تشييد أبنية جديدة في المناطق المتضررة. مع إعطاء الحق للقاطنين، مالكين أو مستأجرين، للحصول على تراخيص الترميم وإزالة مختلف العراقيل الإدارية والبيروقراطية.

أبنية الجميزة - الجزيرة
أبنية منطقة الجميزة في بيروت لا تزال قيد الترميم (الجزيرة)

حراك المتضررين

هذا الواقع، دفع أبناء المناطق العقارية السبع الأكثر تضررا، للإعلان قبل أيام عن "تجمع سكان الأحياء المتضررة في تفجير 4 أغسطس/آب"، بهدف "تحقيق العدالة للمناطق المتضررة، ولسكانها والعاملين فيها".

وضم التجمع عشرات السكان، من بينهم مارلين نصر (70 عاما)، أكاديمية وباحثة اجتماعية، أصيب منزلها بدمار كبير، وباتت عاجزة عن ترميمه بسبب التكاليف الباهظة.

وقالت نصر -للجزيرة نت- إن هذه المنطقة، سبق أن دمرت بالحرب الأهلية (1975–1989)، "بسبب صراعات مليشيات مسلحة انبثق عنها معظم أحزاب السلطة اليوم". وتعتبر أن "ثمة عملية سطو ممنهج على بيروت، مدنيا وسكانيا وعمرانيا، لصالح أمراء الأحزاب والطوائف ورجال الأعمال".

وتطالب نصر مع المنخرطين بالتجمع، بإشراك السكان في سياسات الإعمار؛ والإسراع بترميم وإعادة بناء المباني المتصدعة، لعودة سكانها، والحفاظ على الطابع المميز لأحيائهم. وتشير إلى أن أولويتهم، حماية الفئات الأكثر هشاشة من التشرد، "بعد تفاقم نسب الإخلاء بسبب موجة الإيجارات، والمضاربات العقارية التي اجتاحت المناطق المتضررة ".

المصدر : الجزيرة