المستشفيات أحدث ضحايا أزمات لبنان.. شح المحروقات يهدد بتوقفها ومرضى لا يستطيعون الوصول لها

قال مسؤول العناية الطبية بوزارة الصحة اللبنانية إن القطاع الصحي بلغ مرحلة كارثية إذ تجاوزت أزمته صعوبة توفير الدواء، وعلاج الأمراض المستعصية والمستلزمات الطبية، إلى صعوبة توفير المازوت.

النقص الكبير بالأدوية وانقطاع الكهرباء يمثلان قلقا كبيرا للمرضى وأهاليهم (الجزيرة نت)

بيروت – مع ضعف قدرته الاستيعابية، يمتلئ قسم العناية المركزة المخصص للأطفال داخل مستشفى طرابلس الحكومي (شمالي لبنان) إذ يتقاسم 50 طفلا يرقدون على أسرة المرضى كمية محدودة من المواد الأولية والمستلزمات الطبية، علّها تنقذ حياتهم في بلد يعاني من شح غير مسبوق في شتى المقومات الأساسية.

ويتشارك ذوو الأطفال مصاعب توفير الرعاية الصحية، في ظل النقص الحاد في الأدوية وارتفاع أسعار ما هو متوفر منها، والكلفة الباهظة للفاتورة الصحية بالمستشفيات الخاصة مقابل امتلاء أسرة المستشفيات الحكومية، وصعوبة التنقل نتيجة أزمة الوقود.

وتبدي فاطمة قلقها على طفلها الرضيع، وتدهور صحته إثر ارتفاع حرارته، وعدم عثور والده على خافض للحرارة في الصيدليات.

طه الآغا يتحدث عن نقص حاد في المعدات بغرف العناية الفائقة الخاصة بالأطفال (الجزيرة نت)

وقالت للجزيرة نت "انتظرت 3 أيام آملةً أن يتعافى، ولم نعثر على سرير له إلا بعد رحلة بحث شاقة" ويتنقل بين أسرّة الأطفال عدد قليل من الممرضات قياسًا بمستوى الاكتظاظ.

وهنا يعبّر مسؤول قسم العناية الفائقة للجزيرة نت طه الآغا عن خشيته من بلوغ مرحلة "يصبح فيها إنقاذ حياة الأطفال مهمة شبه مستحيلة، نتيجة النقص الكبير في المستلزمات الأولية والمعدات التي يحتاجونها في العناية" رابطًا الأمر بعوائق مصرفية ومالية تعرقل آلية استيرادها، وارتفاع كلفتها، وعمل الفريق الطبي تحت ضغط نفسي ولوجستي لم يعهده سابقًا.

وقسم الطوارئ ليس أفضل حالًا، حيث يضطر بعض المرضى للجلوس ساعات في الممرات بانتظار شغور أحد الأسرّة.

بين الحكومي والخاص

يقصد مستشفى طرابلس الحكومي الفقراء القاطنون في الأطراف شمالًا، وحتى من كانوا يُحسبون على الطبقة الوسطى، وهو من بين 31 مستشفى حكوميًا تشغل نحو 30% فقط من عدد الأسرّة بلبنان مقابل نحو 130 مستشفى خاصًا.

ويصف مدير المستشفى ناصر عدرة مشهد الطوارئ اليومي بالمثير للهلع، إذ تضاعف عدد ضحايا الإشكالات الفردية، وتدهورت صحة المرضى بسبب شح الأدوية، كما بدا ملحوظًا أن الأهالي صاروا يتأخرون في نقل أطفالهم الذين يحتاجون لعلاج طارئ بالمستشفى نتيجة شح الوقود.

وتتعاقد المستشفيات الخاصة مع الجهات الضامنة بالدولة، وتتلقى مساعدات من الجهات المانحة، كما تتبع لوصاية وزارة الصحة. غير أن العاملين فيها يعانون من ضائقة اقتصادية خانقة، بعد أن خسروا أكثر من 90% من قدرتهم الشرائية.

ويتقاضى العاملون بالمستشفيات رواتبهم التي يبلغ متوسطها 1.5 مليون ليرة وفق سعر الصرف الرسمي الذي بلغ ألفا و507 ليرات أمام الدولار، مقابل ألف دولار قبل أزمة بدأت منتصف 2019، ومع تدهور سعر الليرة بالسوق السوداء لمعدلات بلغت أخيرًا 19 ألف ليرة لنحو 78 دولارا.

Economic crisis worsens in Lebanon
نقص المواد الطبية الأساسية انعكس سلبا على أقسام الطوارئ (الأناضول)

ويشير عدرة إلى أن نحو 12 ممرضًا يعملون بالمستشفى استقالوا خلال شهرين بهدف الهجرة، ويواجه من بقي صعوبة في الوصول إلى المستشفى بسبب شح البنزين وكلفته الباهظة بالسوق السوداء.

ويتوافق مع مدير مستشفى رفيق الحريري الحكومي ببيروت فراس الأبيض في أن المستشفيات صارت تستجدي الحصول على كميات محدودة من المازوت، وانسحب الوضع أيضًا على كبرى المستشفيات الخاصة، وكان آخرها تحذير المركز الطبي بالجامعة الأميركية في بيروت من إقفال أبوابه بسبب انقطاع المازوت، قبل أن يتلقى مخزونًا جديدًا يكفي أياما.

وقال الأبيض للجزيرة نت إن المستشفيات كانت تُمنح استثناء من مؤسسة كهرباء لبنان عبر تزويدها بساعات تغذية إضافية، لكن انقطاع الكهرباء أصبح يتجاوز 20 ساعة يوميًا.

وأوضح أن مستشفى الحريري -الذي يضم نحو 340 سريرًا- يضطر منذ أيام لإطفاء المكيفات وتأجيل العمليات غير الطارئة، كما انعكس شح المازوت على خدمة المرضى.

ويُذكّر الأبيض بأن لدى المستشفيات الحكومية أموالًا طائلة في ذمة الدولة و"لولا المتبرعون لأغلقنا أبوابنا، إضافة إلى مغادرة نحو 30% من فريقنا الطبي".

الفريق الصحي يعمل تحت ضغط كبير في ظل الاستقالات بسبب الأزمة الاقتصادية (الجزيرة نت)

مخاطر شح المحروقات

ويرى مراقبون أن شح المحروقات يشكل تهديدًا خطيرًا للأمن الاجتماعي والصحي في البلاد.

ويرى مسؤول العناية الطبية بوزارة الصحة جوزيف الحلو أن القطاع بلغ مرحلة كارثية، إذ تجاوزت أزمته صعوبة توفير الدواء وعلاج الأمراض المستعصية والمستلزمات الطبية إلى صعوبة توفير المازوت.

وقال الحلو للجزيرة نت "وضع المستشفيات يوحي بأننا في حالة حرب" لافتًا إلى أن وزير الصحة حاول مرات عدة إيجاد صيغة تضمن استمرار تزويد المستشفيات بالمحروقات.

الدعم المشوّه

وقبل نحو أسبوع، أعلن حاكم المصرف المركزي رياض سلامة قرار رفع الدعم كليًا عن استيراد المحروقات. وكشف هذا القرار عن صراع السلطتين النقدية والسياسية، وأدى إلى استشراء الفوضى بالشارع.

غير أن رئيس الجمهورية ميشال عون أعلن أول أمس الموافقة على اقتراح وزارة المالية بالطلب من المركزي فتح حساب مؤقت لتغطية استيراد المحروقات، عبر خفض الدعم عنها بسعر صرف 8 آلاف ليرة للدولار، بدل 3900 ليرة، وبدعم يبلغ في حده الأقصى 225 مليون دولار، حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2021، على أن يتم تسديد الفروق المالية من خزينة الدولة عبر موازنة عام 2022.

وقد أصدرت المديرية العامة للنفط أمس الأحد جدول أسعار جديدا للمحروقات ارتفع أسعارها بموجبه نحو 65%.

وقفز القرار مرحلة في مسار رفع الدعم التدريجي، تفاديًا لتداعيات رفعه الكلي مرّة واحدة، وشكل انتكاسة إضافية للقطاع الصحي، وفق حديث نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون للجزيرة نت.

وأوضح هارون أن السلطات توهم المواطنين باجترار الحلول، لكن استيراد المحروقات وفق سعر 8 آلاف ليرة للدولار يعني تكبيد المستشفيات أعباءً إضافية، ورفع كلفة تشغيل مولداتها، وبالتالي مضاعفة الفاتورة الاستشفائية على المواطن.

هروب دائم

من جهته، يرى ناصر ياسين الأكاديمي ومسؤول مرصد الأزمة بالجامعة الأميركية في بيروت أن ثمة مشكلتين تواجهان المستشفيات:

أولًا- عدم قدرتها على توفير المازوت لمولداتها الخاصة عبر القنوات الرسمية، مقابل احتكار أرباب السوق السوداء، علما بأن تصويب المطلب يكون عبر توفير التغذية من مؤسسة الكهرباء.

ثانيًا- الفوضى في وضع موازنات المستشفيات والفاتورة التي يتحملها المواطن.

وعليه، فإن الأزمة مزدوجة بين توفير الكهرباء وتنظيم الكلفة -وفق ياسين- وتضاف إلى صعوبة وصول المواطنين إلى المستشفيات، سواء لجهة عدم القدرة على تغطية كلفة التنقل، أو من ناحية العجز عن تسديد الفاتورة الصحية.

ويصف هذا الأكاديمي قرار السلطات تخفيض دعم المحروقات "بالهجين" لأنه إمعان في الهروب من المشكلة التي تعود جذورها لعجز في ميزان المدفوعات، مقابل شحّ الدولار.

وقال ياسين إن الحل يبدأ بتحرير سعر المحروقات، لاستئصال كل مبررات التخزين والاحتكار والتهريب إلى سوريا بحجة فرق الأسعار، شرط أن يكون مرافقًا لخطة موازية توفر دعمًا نقديا مباشرا للمواطنين، ودعم الدولة للقطاعات، وأولها الصحة والتعليم والنقل.

والأهم من ذلك -حسب ياسين- تعزيز الرقابة الأمنية على خطوط عبور صهاريج المحروقات، وإلا سيبقى انهيار الكيان مسألة وقت فحسب.

المصدر : الجزيرة