هل تعيد سيناريو التسعينيات؟ لهذه الأسباب تقدمت طالبان شمال أفغانستان

تضع التطورات الأخيرة الكرة في ملعب زعماء طالبان ليثبتوا أنهم دعاة سلام، وهم يعرفون جيدا أن العزلة السياسة لأفغانستان لن تفيدهم، وأن خططهم لحكم البلاد -وحدهم أو بشراكتهم الفعالة- تتطلب اعترافا دوليا وتعاونا إقليميا واسعا.

تستغل طالبان انسحاب القوات الأميركية لتسيطر على أكبر عدد من ولايات شمال أفغانستان (الجزيرة)

بينما كان آخر جندي أميركي يهمّ بصعود الطائرة العسكرية الجاهزة للإقلاع من قاعدة باغرام الجوية شمال كابل، كانت مناطق كثيرة في شمال وشمال شرق أفغانستان تشهد انسحابا دراماتيكيا للحكومة الأفغانية من مراكز المديريات، لتخلو الساحة لمقاتلي حركة طالبان في السيطرة على تلك المناطق.

وحاليا، باتت الحركة تسيطر على أكثر من ثلث المديريات الأفغانية البالغ عددها 421، لكن لا تحكّم لها في أي مركز ولاية من الولايات الأفغانية الـ34، والتي تسيطر عليها حكومة الرئيس أشرف غني.

وهذه الأعداد قابلة للتغير، نظرا لإصرار طالبان على التمدد، ولو ببطء، لتضييق الخناق على المدن الكبرى بما فيها العاصمة كابل. وكذلك محاولة القوات الحكومية استرداد بعض المديريات القريبة من المدن والعاصمة، وتلك الواقعة على الطرق الإستراتيجية.

انسحاب القوات الحكومية من القواعد العسكرية ومراكز المديريات، حتى تلك البعيدة عن تهديد طالبان شمال أفغانستان، أثار تكهنات بشأن أسباب وأهداف هذا الانهيار المتسارع، وفي بعض الحالات غير المتوقع.

سقوط أحجار الدومينو

التفسير الأولي والبسيط والأقرب أيضا لما تتداوله طالبان، يعود إلى انهيار الروح المعنوية للقوات الحكومية بعد انسحاب القوات الأميركية والناتو، في ظل استشراء الفساد الحكومي وقلة الموارد وفقدان العقيدة القتالية والخلافات داخل أجنحة النظام في كابل.

ويدعم ذلك وجود تقييمات غربية، أحدثها الصادرة عن الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" (CIA)، والتي تتنبأ بسقوط النظام في كابل في غضون 6 أشهر من استكمال الانسحاب الأميركي.

وقبل الحديث عن تفسيرات أخرى لهذا الانهيار الحكومي المتسارع الذي شهدته مناطق شمال أفغانستان بوجه خاص، من الضروري أن نفهم أيضا لماذا تركز طالبان في جهودها العسكرية مؤخرا على شمال البلاد بشكل خاص؟ فقد فاجأت طالبان بتقدمها السريع الحكومة الأفغانية، وكذلك قادة الشمال الذين قاموا بالفعل بتعبئة شعبية لمقاومة الحركة.

الشمال أهمية استثنائية

تحقّق السيطرة على الشمال ميّزة متعددة الجوانب لطالبان، وتعزز مكانتها التفاوضية في محادثات السلام، وفي تشكيل حكومة مستقبلية، وكذلك في تقدمها كقوة سياسية وعسكرية تمثل جميع مكونات أفغانستان العرقية.

ويمنح التقدم في الشمال حركة طالبان أيضا السيطرة على أهم الممرات الحدودية التجارية مع دول آسيا الوسطى، وكذلك السيطرة على الأراضي الخصبة وحقول النفط والغاز ومناجم الذهب والأحجار الكريمة. وبالسيطرة على معظم الشمال، تسحب طالبان بطاقة تفاوضية مهمة من الحكومة وبقية الأطراف الأفغانية على طاولة المحادثات.

الحكومة الأفغانية التي لا تنكر توقعها خطط طالبان للتقدم العسكري خصوصا في الشمال بالتزامن مع انسحاب القوات الأميركية والناتو، تتحدث الآن عن سعيها لاستعادة المديريات التي فقدتها خلال الأسبوع الأخير.

ربما تشعر الحكومة في كابل أن طالبان بتمددها السريع في الشمال، ستنشغل في إدارة المناطق الواسعة التي سقطت فجأة بيدها، وستخرج من معاقلها الحصينة، وهذا ما يسهّل مهمة مواجهتها واستعادة تلك المناطق.

الجانب الحكومي وأيضا قادة الشمال السياسيون، ربما ينتظرون أن تدفع طالبان -عبر سياساتها المتشددة في المناطق التي تسيطر عليها- الناس مرة أخرى لرفع السلاح ضدها، مثلما حصل في التسيعنيات من القرن الماضي إبان حكم الحركة. لكن في المقابل، تبدو طالبان كأنها تعلمت الدرس، وتسعى لكسب عقول الناس وقلوبهم عبر عدم الانسياق وراء سياسة الانتقام والعقاب، ولو مؤقتا.

ويرى البعض داخل النظام أن انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان سلب طالبان الحجة لاستمرار القتال، وتركها أمام لحظة الحقيقة لقبول المصالحة والانخراط بجدية في جهود السلام عاجلا أو آجلا.

إلى فوضى التسعينيات

وتدرك طالبان أن واشنطن والغرب غسلوا أيديهم من أفغانستان، ولم يعد الرئيس بايدن يطيق سماع اسمها، وهذه إشارة خضراء كافية للحركة حتى تستغل الوضع النفسي الذي أحدثه الانسحاب الأميركي وتوسع رقعة سيطرتها. غير أن التطورات العسكرية السريعة في الشمال أثارت مخاوف لدى الصين وروسيا وإيران.

وثمة من يعتبر أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان سيدفعها إلى حرب أهلية تشغلها وبقية الدول المجاورة بتبعاتها، من حيث أمواج اللاجئين، وظهور المجموعات المتشددة، واندلاع حروب طائفية.

بل تذهب تحليلات الصحف الإيرانية الإصلاحية والمحافظة، إلى أن تسليم أفغانستان لحكم طالبان في الحقيقة هو مشروع أميركي لاستهداف إيران، وإشغالها بحرب طائفية في أفغانستان.

وبينما تحمل وسائل الإعلام الإيرانية المحافظة خطابا تصالحيا مع طالبان، تطالب صحف إصلاحية بالتدخل الإيراني غير المباشر، عبر دعم لواء "فاطميون" للحفاظ على مصالح شيعة أفغانستان.

وحتى باكستان التي تعتبر الداعم الإقليمي الرئيس لطالبان، فقد لا ترحب بسيطرة طالبانية شاملة على أفغانستان، وإن كان هذا الأمر ليس واردا حاليا. لكن نظريا، قد تشعر إسلام آباد أن انتصارا كاملا لطالبان في أفغانستان يمكن أن ينعش آمال طالبان باكستان ويعزز أفكارها داخل المجتمع الباكستاني.

من جانب آخر، تبدي التصريحات الروسية أيضا قلقا من عودة من تصفهم "جماعات إرهابية" إلى شمال أفغانستان. وأكدت موسكو دعمها لطاجيكستان التي بدأت نشر نحو 20 ألف جندي إضافي على طول حدودها الطويلة مع أفغانستان.

وشهدت طاجيكستان لجوء أكثر من ألف جندي أفغاني إليها في الأيام الماضية، وهي تعبر عن استعدادها لاستقبال اللاجئين الأفغان مع تدهور الوضع شمال أفغانستان. لكن دوشنبه تستخدم لهجة حيادية تجاه طالبان، التي بدأت السيطرة على المناطق والمعابر الحدودية بين البلدين.

حياد مرتبط بالمصالح

ورغم أن الصين وروسيا وإيران تصف الانسحاب الأميركي من أفغانستان بغير المسؤول، وبأنه يترك البلد على "كف عفريت"، فإن هذه الدول، بالإضافة إلى دول آسيا الوسطى المجاورة لأفغانستان، تتخذ موقفا محايدا تقريبا من طالبان.

بل كلها بشكل أو بآخر تتواصل مع الحركة مباشرة أو عبر الوسيط الباكستاني، وتبدي نوعا من المرونة توحي أن هذه الدول مستعدة للتعامل مع طالبان سواء كانت جزءا من حكومة أفغانية قادمة أو حتى لو حكمت بمفردها، ما دامت الحركة تتفهم مخاوف هذه الدول وتتعاون في تحقيق المصالح المشتركة واستقرار المنطقة.

وتريد الصين التأكد من أن أفغانستان لن تكون ملجأً لمقاتلي الإيغور وبقية الجماعات الجهادية، وأن ترحب بمشاريع الصين الاقتصادية الإستراتيجية في المنطقة، وتفتح أبوابها للاستثمارات الصينية.

روسيا ودول آسيا الوسطى كذلك. تريد لأفغانستان -في ظل طالبان- أن لا تشكل خطرا على أمنها ومصالحها الاقتصادية والسياسية.

وربما إيران، ورغم ذكرياتها الأليمة من حكم طالبان نهاية التسعينيات، فإنها حاليا تريد الاستثمار في علاقاتها مع الحركة لحفظ مصالح طهران العلنية وغير المعلنة في أفغانستان.

بالمقابل، يبدو أن طالبان هي الأخرى ليست مستعدة لفقدان حالة القبول المحدود التي تحظى بها حاليا لدى دول الجوار والصين وروسيا، والمكاسب السياسية التي حققتها من خلال الانخراط في مسار المفاوضات مع الأميركيين، والتي أفضت إلى اتفاقية الدوحة، وكذلك عبر مفاوضات السلام الأفغانية فيما بعد.

هل تعلمت الدرس؟

كل هذا يدفع طالبان -وهي في قمة تقدمها العسكري الساحق، للتأكيد عبر منابرها الرسمية، على التزامها بمفاوضات السلام والحل السلمي للحرب الأفغانية.

هذا التأكيد على المسارين العسكري والسياسي في الوقت نفسه، يوحي بأن طالبان قد تستمر في تقدمها العسكري، وقد تنتقل إلى السيطرة على مراكز الولايات والمدن الكبيرة خلال الشهور القادمة، إذا لم تجد مقاومة من الحكومة والمليشيات الشعبية، والتي قد تغير قواعد اللعبة وتحدث فرقا في تطور الأحداث خصوصا في شمال أفغانستان.

وإذا طال أمد الحرب وتبعاتها، ورأت طالبان أن المناخ الدولي يتحول ضدها، فقد تكتفي بما لديها من مكاسب عسكرية ميدانية وتعود بموقف أقوى إلى طاولة المفاوضات.

وتؤكد أصوات عديدة، من داخل أفغانستان وخارجها، أن حل الصراع في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي لن يكون عسكريا، وأن طرفا واحدا لا يمكنه الانفراد بحكم أفغانستان وفرض إرادته عليها، وهو ما يعني إطالة الحرب في هذا البلد الذي اشتهر بكونه "مقبرة الغزاة".

وبينما تضع التطورات الأخيرة الكرة في ملعب طالبان لتثبت أنها من دعاة السلام، يعرف زعماء الحركة جيدا أن العزلة السياسة لأفغانستان لن تفيدهم، وأن خططهم لحكم البلاد وحدهم أو بشراكتهم الفعالة تتطلب اعترافا دوليا وتعاونا إقليميا واسعا، وكل هذا لا يمكن تحقّقه إلا عبر تنازلات قد تبدو صعبة على الحركة وشعاراتها السياسية وأدبياتها الأيديولوجية وعلاقاتها الأمنية.

المصدر : الجزيرة