حُفرت بالدم ولأجلها نشبت حروب.. قناة السويس صراع الحفر والتأميم والمنافسة

قناة السويس شهدت أزمة كبيرة هذا العام عندما جنحت سفينة حاويات عملاقة وأوقفت الملاحة لعدم أيام (رويترز)

 القاهرة – لا تزال ذاكرة كثير من المصريين تحتفظ بتلك الجملة الشهيرة من خطاب الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في 26 يوليو/تموز 1956 والتي قال فيها "تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية، وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات".

بعد 100 عام من بدء نحو مليون مصري في حفر القناة بـ"السخرة والإجبار" جاء قرار التأميم (نقل الملكية إلى الحكومة المصرية) الذي تحل ذكراه في هذه الأيام، ردا على قرار القوى الدولية والبنك الدولي بسحب مشروع تمويل السد العالي (جنوبي البلاد).

وتعد قناة السويس من أهم شرايين التجارة العالمية، حيث تمر عبرها 7% من تجارة العالم المنقولة بحرا، و35% من حركة التجارة في موانئ البحر الأحمر والخليج العربي، ونحو 20% في موانئ الهند وجنوب شرق آسيا، و39% في منطقة الشرق الأقصى.

وتمثل القناة أهمية قصوى لدى مصر، فهي أحد المصادر القليلة للعملات الأجنبية بجانب السياحة وتحويلات العاملين في الخارج وحركة التصدير المتواضعة، كما تتسم بالاستقرار النسبي بعكس موارد أخرى أكثر تقلبا.

وكانت مصر قد أنفقت 8.5 مليارات دولار عام 2015 لعمل توسعة جديدة في القناة أطلق عليها الإعلام المصري اسم "قناة السويس الجديدة"، غير أنها لم تحقق الوعود التي أطلقها نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي حول مليارات الدولارات المتوقعة من "القناة الجديدة".

وفي الآونة الأخيرة، يواجه الممر الملاحي المصري مخاوف حول تداعيات تأثير مشاريع إقليمية ودولية على تنافسية القناة وحركتها الملاحية الدولية، من بينها خط إماراتي إسرائيلي.

بالسخرة والدم

بكلمات يخالطها الحزن والشجن تروي الستينية فاطمة عبد الكريم كيف شارك جدها لوالدتها -ويدعى "الضمراني"- في حفر قناة السويس قبل ما يزيد على 165 عاما، في واحدة من الملاحم الوطنية التي خاضها المصريون على مدار تاريخهم.

كان الضمراني واحدا من بين نحو مليون مصري شاركوا في حفر قناة السويس الذي انطلقت إشارته في صبيحة 25 أبريل/نيسان 1859 مستغرقا 10 سنوات في شق القناة المائية بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط.

آنذاك، وافق والي مصر محمد سعيد على شروط الامتياز الذي حصلت عليه فرنسا بموجب فرمانات من الدولة العثمانية، والذي انطوى على شروط مجحفة بالنسبة لمصر واعتداء على سيادتها، مما فتح الباب على مصراعيه أمام الأطماع الأوروبية، حسبما ذكرت الهيئة العامة للاستعلامات بمصر (حكومية) في أحد تقاريرها عن قناة السويس.

وتتذكر فاطمة في حديثها للجزيرة نت كيف تتناقل أسرتها مأساة الجد الراحل، قائلة إنه ذهب بصحبة عشرات من أهل بلدتها بصعيد مصر للعمل في حفر القناة، في وقت كانوا يعانون فيه ضيق الحال، تاركا خلفه مركبا شراعيا كان يكسب من ورائه المال عبر نقل العابرين بين ضفتي نهر النيل.

لكن "جهاد" الرجل الذي يتحاكى عنه أبناؤه وأحفاده -حسب تعبير السيدة الستينية- انتهى به على فراش المرض، بعد أن أصيب بضربة شمس خلال عمله في حفر القناة لأسابيع متواصلة أودت في النهاية بحياته.

ورغم مصابه الأليم فإن الضمراني كان أفضل حالا من آلاف العاملين في حفر القناة آنذاك، حيث بدأت فصول معاناة العمال من خلال نقض الشركة وعدها بحفر قناة ماء عذب لمد العمال بمياه الشرب، مما أدى للتضحية بآلاف العمال الذين أنهكتهم شدة العطش والانهيارات الرملية.

ثم توالى سقوط الآلاف بسبب انتشار الأوبئة، كما خالفت الشركة وعدها بتوفير وسائل متطورة في الحفر، وأكره العمال المصريون على العمل في ظروف قاسية معتمدين فقط على سواعدهم وعلى أدوات بدائية، وفق تقارير رسمية وصحفية.

ديون وتنازل

وفي 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1869 افتتحت مصر قناة السويس في حفل أسطوري أنهك الميزانية الضعيفة بالأساس، وعرض الخديوي إسماعيل (حاكم مصر آنذاك) أسهم مصر في القناة للبيع، فقامت بريطانيا بشرائها.

أصبح لبريطانيا الحق في الإشراف على مرفق القناة، وزاد عدد الإنجليز في مجلس إدارة الشركة إلى الثلث خلافا لحصة فرنسا، كما تنازلت مصر لاحقا عن حقها في الحصول على 15% من أرباح الشركة مقابل قروض.

ومع اندلاع ثورة يوليو/تموز 1952 أولى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر اهتماما باسترداد القناة التي كانت تترقب انتهاء عقد الامتياز في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1968.

قرار التأميم

وفي 26 يوليو/تموز 1956 أعلن عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس، لتعود سيادة مصر على القناة كي تستطيع تمويل مشروع السد العالي في أسوان، بعد رفض البنك الدولي تمويله.

كما تعددت الأهداف المصرية لتأميم القناة، وكان على رأسها -كما جاء في خطاب عبد الناصر- الأهمية الاقتصادية للقناة لمصر والعالم، حيث كان إجمالي ما تحصل عليه القاهرة من أرباح لا يزيد على 5%، إضافة إلى الأهمية العسكرية للقناة مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة بين قطبي العالم الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

كانت القناة تمثل "وريد الدورة الدموية للبترول في العالم" كما جاء على لسان وزير الخارجية البريطاني الأسبق أنتوني إيدن الذي كانت بلاده تمتلك 44% من أسهم القناة، وفق تقارير.

فيما يمثل الهدف المباشر للتأميم تمويل السد العالي الذي بنته مصر لمواجهة مخاطر فيضان النيل جنوبي البلاد، بعد أن قامت الولايات المتحدة وبريطانيا والبنك الدولي بسحب العرض المصري لتمويل السد.

الخطة 700 والعدوان الثلاثي

توالت ردود الفعل الدولية إزاء تأميم القناة، حيث نددت بريطانيا وفرنسا بالقرار، وبعد يوم واحد من التأميم قررت لندن تجميد حسابات مصر الجارية، وحظر تصدير الأسلحة والإمدادات العسكرية، ومنعت تحرك مدمرات مصرية كانت موجودة في ذلك الوقت بموانئ بريطانيا ومالطا.

كما قررت باريس تجميد الأرصدة المصرية في البنوك والمصارف الفرنسية، إلى جانب سحب المرشدين الأجانب من العمل في القناة، لكن مصر تغلبت على ذلك، فكسبت الجولة الأولى من صراع التأميم.

حشدت فرنسا وبريطانيا جيوشهما وأساطيلهما، وأعلنتا حالة الطوارئ ولوحتا باستخدام القوة لإرغام مصر على التراجع عما اتخذته من إجراءات التأميم، واعتبرتاه نقضا لاتفاقية الامتياز الممنوحة لشركة القناة.

وردا على قرار التأميم وضعت بريطانيا منفردة ما تعرف بـ"الخطة 700″ العسكرية لاحتلال مصر، قبل أن تشترك مع فرنسا وإسرائيل فيما عرف بـ"العدوان الثلاثي على مصر"، حيث شنت الدول الثلاث في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956 عدوانا ركز على منطقة قناة السويس، قبل أن تصدر الأمم المتحدة قرارا بوقف العمليات العسكرية وانسحاب القوات المعادية.

استردت مصر القناة بعد 150 يوما من العدوان، وبدأت كتابة فصل جديد في تاريخها، والذي تزامن مع قرارات بتأميم البنوك وشركات التأمين والتوكيلات التجارية التي كان معظمها في أيدي رعايا فرنسا وبريطانيا، كما تم بناء السد العالي.

مثّل العدوان الثلاثي بداية الاهتمام الأميركي بمصر، وآنذاك قاد الرئيس دوايت أيزنهاور سلسلة من الخطوات الأممية لوقف الحرب، خشية الاندفاع العربي -والمصري تحديدا- صوب الاتحاد السوفياتي.

ورغم أن الدور الأميركي في مصر كانت أمامه عقبة تتمثل في عبد الناصر كما بدا في حالات كثيرة فإن واشنطن وجدت ضالتها أخيرا في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية الموقعة عام 1979 برعاية أميركية، مما فتح الباب للولايات المتحدة في استخدام قناة السويس كممر عسكري يفوق أهميتها التجارية، وهو ما بدا لاحقا في تسهيلات عبور السفن والبوارج الحربية ومزايا لوجستية أخرى.

منافسة إقليمية ودولية

وفي الآونة الأخيرة، تزايد الحديث عن منافسين إقليميين ودوليين لدور قناة السويس الحيوي في حركة التجارة والملاحة العالمية، وكان آخرها مشروع خط أنابيب إيلات عسقلان (إماراتي/ إسرائيلي) الذي تضاربت حوله التصريحات المصرية على تنافسية قناة السويس في حركة الملاحة الدولية.

وفي الربع الأخير من العام الماضي وقعت أبو ظبي وتل أبيب اتفاقا يستهدف نقل نفط الخليج عبر خط أنابيب يربط بين ميناءي إيلات على البحر الأحمر وعسقلان على البحر المتوسط إلى أوروبا، والذي يمر معظمه حاليا عبر قناة السويس.

ووفق مجلة "فورين بوليسي" (Foreign Policy) الأميركية، فإن حركة التجارة في قناة السويس مرشحة للتناقص بأكثر من 17% إذا تم تنفيذ هذا المشروع الإماراتي الإسرائيلي الذي لا يعد الوحيد الذي له تأثيرات سلبية على شريان مصر الحيوي، حيث إن أحد التداعيات السلبية المحتملة أيضا جراء التطبيع الخليجي مع إسرائيل على قناة السويس إحياء خط التابلاين (الأطول عالميا لنقل النفط).

ويمتد خط التابلاين من ساحل الخليج العربي بالمملكة السعودية إلى البحر المتوسط، وهو متوقف منذ احتلال إسرائيل هضبة الجولان السورية.

ويأتي طريق رأس الرجاء الصالح (يمر حول أفريقيا) ضمن المنافسين التاريخيين للمجرى الملاحي المصري، إذ غيرت شركات شحن كبرى مسارها إليه بدلا من قناة السويس في ذروة الانخفاض الكبير في أسعار البترول العام الماضي، بسبب تداعيات فيروس كورونا التي أثرت سلبا على الاقتصاد الدولي.

وفي عام 2016 دشنت الصين الممر الشمالي الغربي الذي يمر عبر القطب الشمالي إلى أوروبا، وهو أقصر بمئات الأميال عن المرور بقناة السويس.

كما تأتي قناة بنما منافسا دوليا لقناة السويس، حيث تعد معبرا لـ5% من التجارة البحرية العالمية.

وفي عام 2016 وسعت دولة بنما قناتها من أجل تحفيز واستقطاب شركات الشحن التي تستخدم قناة السويس، خاصة أنها تعد معبرا رئيسيا للولايات المتحدة والصين.

المصدر : الجزيرة