القوات الأميركية في العراق.. تغيير في المهام وعين على إيران

لا تبدو هناك رغبة لدى قطاعات كبيرة من الشعب الأميركي للاستمرار في حروب طويلة دون تحقيق نتائج ملموسة

الكاظمي (يسار) اتفق مع بايدن على التركيز فقط على تدريب قوات الأمن العراقية وتقديم المشورة لها (رويترز)

واشنطن- "القضية الأساسية ليست خسارة الحرب، ولكن ما إذا كان تركها تستمر وتتصاعد يستحق تكلفتها، والولايات المتحدة تحتاج لأسلوب أكثر واقعية في تقييمها الإستراتيجي عند دراستها لتلك الحروب ومخاطرها"، هكذا يلخص كبير الخبراء الإستراتيجيين في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بواشنطن أنتوني كوردسمان الخيارات الصعبة أمام صانع القرار الأميركي في حروب الشرق الأوسط.

وعندما واجهت واشنطن هذا السؤال في أفغانستان كانت الإجابة واضحة وحسمها قرار الرئيس الأميركي جو بايدن بالانسحاب الكامل في نهاية أغسطس/آب المقبل، لكن الوضع في العراق لم يصل بعد لتلك الدرجة من الوضوح والحسم لديه أو لدى صناع القرار في واشنطن، ولا يزال الجدال مستمرا حول ما إذا كانت الحرب في العراق تستحق الاستمرار أو التصعيد، وما إذا كان الثمن- سياسيا واقتصاديا وعسكريا- قابلا للاحتمال.

وجاء الإعلان الرسمي عن بقاء نحو 2500 جندي أميركي في العراق أثناء اجتماع بايدن مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في البيت الأبيض ليؤكد أن واشنطن لا تزال ترى أن فوائد البقاء تتجاوز أضراره ومخاطره، وإن كان قد تم تعديل مهمتها لتركز على التدريب والدعم اللوجستي والاستشاري للقوات العراقية مع الحد من الدور القتالي للقوات الأميركية.

وللموازنة بين هذين الاعتبارين يتعين الحفاظ على الهدف الأساسي من وجودها مع تقليل الثمن السياسي لها، خاصة على الجانب العراقي الذي تؤكد المصادر الأميركية أنه لا يزال حريصا على وجود الدعم العسكري الأميركي الذي يحتاجه، مع تنفيذ مطلب البرلمان العراقي بسحب القوات الأميركية.

Coalition And Iraqi Forces Occupy Baghdad's International Zone
واشنطن لا تزال ترى أن فوائد بقاء قواتها في العراق تتجاوز أضراره ومخاطره (رويترز)

إيران الغائب الحاضر

لكن سحب تلك القوات أو تحويل مهامها الذي حظي بالاهتمام الإعلامي الأكبر لأسباب مفهومة ليس سوى تعبير عن قضايا أكثر عمقا وتعقيدا في علاقات الدولتين ركز عليها الحوار الإستراتيجي بينهما الذي جرى في واشنطن خلال الأيام الماضية.

ويرى الجانب الأميركي أن تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان سببا لعودة القوات الأميركية إلى العراق بعد سحبها عام 2011 لم يعد يمثل تحديا كبيرا، فهو لا يمكنه الآن احتلال أراض كما فعل من قبل، ولم يعد بمقدوره سوى القيام بعمليات متفرقة مثل التفجيرات الأخيرة في بغداد، مما يعني أنه أيضا لا يمكن تجاهله تماما كمصدر قلق محتمل مع استمرار كثير من الظروف الموضوعية التي سمحت بوجوده منذ البداية.

وقد عبر مسؤول أميركي عن ذلك بأن الهدف الآن هو "استمرار هزيمة تنظيم الدولة"، مشيرا إلى التغيير الكبير الذي حدث بالفعل، فلم تعد هناك مشاركات من طائرات الأباتشي أو القوات الخاصة في عمليات قتالية.

ويضيف المصدر ذاته "نعتقد أننا مع نهاية العام سنكون جاهزين للتحول رسميا إلى دورنا الاستشاري وبناء القدرات لدى الجانب العراقي"، وهذا أيضا ما أكد عليه الكاظمي بأن بلاده لم تعد في حاجة للمساندة القتالية، بل للدعم الاستخباراتي والتدريب وبناء القدرات والدور الاستشاري.

الحد من الفساد

ويقول الخبير في الشؤون العراقية كينيث كاتزمان إن أميركا تهدف الآن لدعم العراق كدولة وتفعيل الحكومة والحد من الفساد، لأن ذلك يساعد على مواجهة النفوذ الإيراني الكبير، مع زيادة قدرة الحكومة على احتواء وتحجيم أنشطة الفصائل المدعومة من إيران.

وأضاف كاتزمان أن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب استخدمت العراق لتصفية حساباتها مع إيران، مما عرضه لمشاكل مع الطرفين، وهو ما حاولت إدارة بايدن أن تتفاداه، لكنها وجدت نفسها منساقة إليه كما حدث بشن هجمات على تلك الفصائل ردا على هجماتها ضد القوات الأميركية في العراق.

وحسب ما تؤكده مصادر واشنطن، فإن إيران هي الغائب الحاضر وربما المهيمن على علاقات الدولتين وحوارهما الإستراتيجي، فبينما يحاول العراق الحفاظ على التوازن في علاقته بالطرفين فإن الولايات المتحدة تسعى بشكل أساسي لمنع إيران من استخدام العراق كجسر يربطها بسوريا ومن بعدها لبنان وحزب الله، ومع استمرار الأزمة السورية وتزايد النفوذ والتغلغل الروسي فيها صارت للعراق أهمية مضاعفة في المواجهة الكبرى بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين.

وتعتقد دوائر في واشنطن أن نجاح مفاوضات جنيف لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران سوف يقلل حدة المواجهة بينهما في العراق، وإن كان ذلك لن يمنع استمرار الاحتكاكات التي لن تتوقف في تقدير أغلب الخبراء إلا إذا تمكنت واشنطن بالتعاون مع الحكومة العراقية من خلق قوة قادرة على مواجهة طهران، وهو ما يبدو مستبعدا حاليا.

المراهنة على الكاظمي

وتنظر إدارة بايدن بارتياح إلى حكومة الكاظمي في بغداد باعتبارها الأكثر كفاءة منذ سنوات والأكثر قدرة على إحداث هذا التوازن وتحجيم أنشطة الفصائل المدعومة من إيران رغم ضعفه نسبيا لعدم استناده إلى قاعدة سياسية، كما أنه -في تقديرها- يتعامل مع واشنطن كحليف.

وقد حرص الكاظمي قبيل توجهه إلى واشنطن على اللقاء في بغداد مع الكاتب المعروف ديفيد إغناتيوس من صحيفة واشنطن بوست (The Washington Post) الأميركية، حيث أكد له اهتمامه بوجود "شراكة إستراتيجية طويلة المدى بين البلدين"، ومن هنا كان الحرص في واشنطن على استضافته في البيت الأبيض، وأن يعود إلى بلاده بما يمكن أن يسوّقه كإنجاز بإنهاء المهمة القتالية للقوات الأميركية، حتى لو لم يمثل ذلك سوى بعض التعديلات على الورق في طبيعة مهامها دون تخفيض حقيقي لأعدادها.

وتأمل الإدارة أن يكون ذلك كافيا لمساعدته في الانتخابات البرلمانية العراقية المقرر إجراؤها في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول القادم، وقد أبدت دعمها للعملية السياسية وللديمقراطية العراقية، وأعلنت تقديم 5.2 ملايين دولار لفريق الأمم المتحدة لمراقبة الانتخابات.

لكن نجاح هذه الرؤية سيعتمد إلى حد بعيد على ردود الفعل في بغداد، وكما هو متوقع لم تكن كلها راضية، خاصة من جانب الفصائل التي تصر على الانسحاب الكامل للقوات الأميركية، ومن هنا يتوقع الخبراء أن تستمر هجماتها حتى بعد تخفيض عدد هذه القوات أو تغيير مهامها، مما يعني أنه على الإدارة الأميركية البحث دائما عن حلول لمواجهتها.

لكن هذا تحديدا يمثل نقطة ضعف موقف واشنطن في تقدير كثير من الخبراء مثل أنتوني كوردسمان الذي ذكر في دراسة نشرها مؤخرا أن السياسات الأميركية تركز على الأمور التكتيكية المرتبطة بمواجهة المخاطر العاجلة، خاصة ممن تصفها بالجماعات المتطرفة، وليس وضع إستراتيجية متكاملة تشمل كل عناصر العلاقة بين الدولتين وتعالج جذور هذه المخاطر بإعادة صياغة السياسات التي تدعم انضواء فئات المجتمع من سنة وشيعة وأكراد تحت حكومة أكثر كفاءة وقدرة على علاج الانقسامات الموجودة.

وسبق لبايدن أن كتب مقالا عندما كان عضوا في مجلس الشيوخ أثناء تصاعد العنف في العراق ذكر فيه أنه من الصعب التوفيق بين مكونات الشعب العراقي، ودعا لتقسيمه إلى 3 دول للشيعة والسنة والأكراد، لكن كاتزمان -الذي كان وقتها مسؤولا عن دراسات الشرق الأوسط في الكونغرس- يؤكد أن الأمر لم يتجاوز المناقشات النظرية ولم يمثل سياسة واشنطن الرسمية وقتها أو حاليا في عهد بايدن.

البعد السياسي

ويبقى البعد السياسي داخل الولايات المتحدة جزءا من أي معادلة بعد أن تجاوز ذلك الشعار التقليدي القديم بأن الصراعات السياسية تتوقف عند الحدود البحرية الأميركية، فإذا بها تقفز فوقها الآن شرقا وغربا، بل وتتفاعل مع قوى بعضها تصنف معادية كما حدث مع روسيا التي تتوافق الأجهزة الاستخباراتية الأميركية على أنها تدخلت لصالح ترامب في الانتخابات الأميركية، وصدرت أحكام بالإدانة ضد شخصيات مهمة مثل بول مانافورت مدير حملة ترامب الانتخابية عام 2016.

وقد تعرضت سياسة بايدن لانتقادات عدة، خاصة من الجمهوريين الذين أدانوا عودته لخطأ سلفه الديمقراطي باراك أوباما بالانسحاب من العراق عام 2011، مما سمح بظهور تنظيم الدولة الذي حذروا من عودته مع أي انسحاب أميركي، وإن لم يذكروا شيئا عن قرارات ترامب المشابهة بسحب أعداد كبيرة من القوات الأميركية من العراق وسوريا وأفغانستان.

وبحسب مراقبين، لا تبدو هناك رغبة لدى قطاعات كبيرة من الشعب الأميركي للاستمرار في حروب طويلة دون تحقيق نتائج ملموسة، وهو ما يجعل أي قرارات مستقبلية بشأن القوات الأميركية في العراق أو مناطق أخرى تعتمد على تطورات الأوضاع على الأرض، فالقضية لم تعد فقط ما إذا كان العائد يفوق الثمن، ولكن بالأساس أي ثمن يمكن احتماله لدى الأميركيين الآن.

المصدر : الجزيرة