انهيار وغضب واستعصاء سياسي.. هل يدخل لبنان سيناريو الفوضى؟

اصطفافات جديدة قد يشهدها لبنان في الفترة المقبلة رغم ارتباط البعض بمنظومة المصالح الاقتصادية والاجتماعية القائمة

تعد طرابلس من أكثر المدن فقرًا في لبنان - الجزيرة
تعد طرابلس أكثر المدن اللبنانية فقرا وتجددت فيها المواجهات تعبيرا عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية (الجزيرة)

بيروت – على وقع انهيار العملة الوطنية اللبنانية بنحو ألفي ليرة إضافية في غضون 48 ساعة فقط ليلامس سعر صرف الدولار سقف 18 ألف ليرة، عادت التحركات الاحتجاجية في العاصمة بيروت بالإضافة إلى مناطق في الشمال والجنوب.

ورغم أن الاحتجاجات ما زالت محدودة ولا تتجاوز قطع الطرقات بالحاويات وإشعال الإطارات، فإن الانهيار المتعاظم في لبنان عامة يصنفه المحللون كأزمة قد تقود إلى الانحدار نحو الفوضى.

ومع شحّ المواد الأساسية وخسارة المواطنين نحو 95% من القدرة الشرائية، يرى كثيرون أن استفحال الأزمة يوفر شروط انتفاضة شعبية ضد مخاطر تهدّد حاضر اللبنانيين ومستقبلهم.

والليلة الماضية، شهدت طرابلس شمالي البلاد، وهي أكثر مدن لبنان فقرًا، تحركات احتجاجية أدت إلى قطع عدد من الطرقات ومحاولة اقتحام منازل بعض نواب المدينة، مما أدى لإطلاق مرافقي أحدهم النار وسقوط 4 جرحى في المواجهات. وأعلنت قيادة الجيش في بيان صحفي "إصابة 9 عسكريين بجروح بعدما أقدم شبّان يستقلون دراجات نارية على رمي قنابل صوتية باتجاه قوة للجيش".

وذكّرت الأحداث بمواجهات دارت بطرابلس على مدى 4 أيام نهاية يناير/كانون الثاني 2021، وانتهت حينها بإحراق مبنى بلدية المدينة وسقوط قتيل وعدد كبير من الجرحى المدنيين والعسكريين، وتخللها إضرام النيران بمركز المحافظة (سرايا طرابلس) ومراكز رسمية أخرى.

عبد الرحمن صاحب الكشك - الجزيرة
عبد الرحمن صاحب كشك قرب ساحة التل بمدينة طرابلس (الجزيرة)

وفي ساحات المدينة، يعبّر المواطنون عن هاجسٍ واحد ينتابهم وهو كيفية الحفاظ على سلامتهم وممتلكاتهم بعد تسجيل اعتداءات على الممتلكات وارتفاع معدلات السرقة. وفي الباحة المواجهة للبلدية، يجلس أبو جهاد (50 عاما) مع رفاقه للتداول بأحداث ليلةٍ وصفوها بـ"الحامية".

يقول أبو جهاد إن أعمال العنف تمنعه من النزول إلى الشارع تعبيرًا عن غضبه من انهيارٍ أتى على مقدّرات اللبنانيين. ويخشى أن يصبح لبنان مشروع "سوريا 2″، وفق تعبيره للجزيرة نت، "لأننا نشعر بإحباط لم نعهده ونشهد على سقوط بلدنا أمام أعيننا بيد أركان السلطة والعابثين بأمننا".

أما صديقه عبد الرحمن، صاحب كشكٍ لبيع القهوة عند ساحة التل، فكان شاهدا على مختلف جولات العنف بطرابلس، ويربطها باستفحال الأزمة التي وسعت نطاق أحزمة البؤوس والقابعين بفقر مدقع.

ويقول الصحافي والمحلل السياسي غسان ريفي إن الاحتجاجات تبدو أقل من المتوقع مع بلوغ الأزمة الاقتصادية ذروتها، وتحديدا بالمناطق الأكثر هشاشة المهددة في غذاء أبنائها وصحتهم. وإن ما شهدته طرابلس كمثال "يوحي بأن هناك من لا يريد للبنانيين أن يثوروا عبر ترهيبهم بالأحداث الأمنية ليلا، والتي لا تتبناها جهات مدنية أو معارضة واضحة".

ويقول ريفي للجزيرة نت إن عدم التوجه إلى أماكن مؤثرة وموجعة للسلطة يجعلها غير مكترثة بتحركات متفرقة بالمناطق، في حين "يدفع استئناف الشغب الناس للتركيز على سلامتهم وحماية ممتلكاتهم وتأمين قوتهم".

"الغنيمة"

ويبدو أن لبنان دخل مسارا انحداريا للأزمة مقابل غياب دينامية القوى المعارضة، ليصبح سيناريو الفوضى الأكثر ترجيحا، وفقا لأديب نعمة خبير التنمية المستدامة والمستشار السابق للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "إسكوا" (ESCWA).

ويعتقد نعمة -في حديثه للجزيرة نت- أن الفوضى متعمدة وليست عفوية، ويذكّر بتقرير البنك الدولي الذي تحدث مؤخرًا عن "الركود المتعمد"، واعتبر أن "لبنان يغرق" ووضعه على قائمة أسوأ 3 أزمات في العالم. وبحسب الخبير، فإن أركان السلطة "يتعمّدون" تعزيز الفوضى لضمان مكاسبهم التي يصفها بـ"الغنيمة" ولو كان ثمنها تدمير البلاد.

ويرصد نعمة مؤشرات سيناريو الفوضى بعوامل عدة، من بينها انحلال مؤسسات الدولة بعد أن صارت السلطة خارجها منذ سنوات. وكذلك استشراء حالة شديدة التطرف بين القوى المتنازعة بعد سقوط التسوية الرئاسية التي أتت بميشال عون رئيسا للجمهورية وسعد الحريري للحكومة.

كما يعتبر التفكك المؤسساتي أحد مؤشرات الفوضى، حيث البرلمان شبه معطل، وتشكيل الحكومة معلق منذ نحو 9 أشهر، والمؤسسات الرسمية تعمل خارج القانون مثلما يفعل مصرف لبنان المركزي والمصارف التجارية. كما تجاوز خرق الدستور إلى درجة تعطيله بالكامل، و"ضعف الرقابة الأمنية على الحدود توفيرا لعمليات التهريب المنظمة".

ويردف نعمة بأن لبنان "يدفع ثمن تدمير ممنهج للنقابات واتحادات العمال التي اخترقتها السلطة، ولا يوجد أجسام وسيطة قد تلعب دورا تغييريا حاضرا ومستقبلًا، في حين تسعى السلطة لإشغال الناس بالانتخابات قريبًا، لتكريس نفوذها باسم الديمقراطية".

الاستعصاء السياسي

هذه الفوضى يقابلها استعصاء سياسي يجهض مبادرات تشكيل الحكومة، ويطيح بآمال اللبنانيين في اتخاذ إجراءات رسمية لوقف الانهيار الذي طال مختلف القطاعات، ودفع المواطنين للوقوف يوميًا بالطوابير عند محطات الوقود.

وتجلى آخرها في استمرار تراشق الاتهامات بين حليفي حزب الله من حركة "أمل" برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري والتيار الوطني الحر، وهو الأمر الذي تطوّر لتبادل الاتهامات بالفساد، رغم دعوة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله للتهدئة.

ويعتبر الكاتب والمحلل السياسي حسين أيوب أنه كلما تعمقت الأزمة، ستكبر التناقضات، مما يرشّح البلاد لمزيد من التفسخات السياسية، تجلت بين حلفاء حزب الله أنفسهم، كما سبق بين القوى المعروفة بجبهة 14 آذار التي تشكلت بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005.

لذا، قد يشهد لبنان نوعا من الاصطفافات الجديدة، تبعا للانقسام الدائر حول أزمة النظام وعملية طرح البدائل، وفق أيوب، الذي يقول للجزيرة نت إن بعض الاصطفافات لا يمكن زحزحتها، لأنها مرتبطة بمنظومة المصالح الاقتصادية والاجتماعية، وكل ما عدا ذلك يبقى متحركا.

ويرى المحلل أن الوضع لدى الأحزاب المسيحية يبدو أكثر تفسخًا، لأن الواقع المسيحي متناقض، وهناك صراع تاريخي على السلطة من دون إيجاد إطار ناظم لنزع فتيله.

ورغم أن المتنازعين هما حليفا حزب الله، فإن أيوب يقول إن برّي منذ لحظة الانتخابات الرئاسية عام 2016 رفض انتخاب ميشال عون، واتخذ قرارا بأن يكون ضده، وألا يساعد في وصول جبران باسيل لسدة رئاسة الجمهورية. و"من هذه الزاوية يكبر الخلاف، أي أن معركة الرئاسة دفعت معظم القوى لكشف أوراقها".

ويرجح أيوب أيضا أن تكون الفوضى عنوان المرحلة المقبلة، "بمزيج يعبّر عن وجع حقيقي للناس، ويجعل شوارع لبنان مفتوحة على احتمالات العفوية والأجندات السياسية معًا".

المصدر : الجزيرة