التحلية والمعالجة والترشيد.. 3 مسارات مصرية لتقليل آثار سد النهضة

الري التقليدي للأراضي الزراعية على رأس أولويات إعادة هيكلة استخدام المياه في مصر (الجزيرة)

هناك دول لا توجد بها أنهار، وتدبر احتياجاتها من المياه بطرق عديدة ومكلفة؛ لكن الأمر بالنسبة لمصر مختلف، فنهر النيل هو شريان الحياة لها منذ قديم الزمن، وتراهن على بقائه، ولن يحول دون تدفقه حائل، هذه قاعدة مصرية مستقرة منذ مئات السنين؛ لكن يبدو أن مشروع سد النهضة الإثيوبي يدفع باتجاه تغيير تلك القاعدة.

ولطالما ردد المصريون مقولة المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت بأن مصر "هبة النيل"، بالنظر إلى اعتماد بلادهم على هذا النهر العملاق لتوفير نحو 97% من احتياجات شعبها لمياه الشرب والري، واستبعد المصريون على مدار التاريخ فكرة البحث عن بدائل في ظل وجود نهر النيل أو "النهر الخالد" كما يطلق عليه أبناء دول حوض النيل.

لكن مع زيادة المخاوف من نقص مياه النيل بسبب سد النهضة، يبدو أن مصر حسمت خياراتها منذ سنوات وليس الآن باعتبار السد أمرا واقعا، وأن عليها البحث عن بدائل مثل تحلية مياه البحر ومعالجة الصرف الصحي والصناعي، فضلا عن حملات وقوانين ترشيد المياه في الزراعة والاستخدام الشخصي.

وقبل أيام، استعرض السيسي مع الحكومة "خطة الدولة الإستراتيجية في مجال محطات تحلية مياه البحر"، ودعا إلى تكامل إستراتيجية تحلية المياه مع السياسة العامة للدولة للإدارة الرشيدة للمياه، إلى جانب الاستفادة القصوى من المياه الناتجة عن كافة محطات المياه المتنوعة سواء للمعالجة أو للتحلية.

البحث عن بدائل

وقفز البحث عن بدائل إلى رأس أولويات الحكومة المصرية، ودأب المسؤولون على التصريح بأن مصر تصنف ضمن الدول التي تعاني الفقر المائي، بسبب الزيادة السكانية مع ثبات حصة الدولة من الموارد المائية، بحسب رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في أبريل/نيسان الماضي.

وفي الشهر ذاته، أقر وزير الري المصري، محمد عبد العاطي، بأن مصر تعد واحدة من أكثر دول العالم التي تعاني من الفقر المائي، الأمر الذي يستلزم اتخاذ العديد من الإجراءات والسياسات، التي تستهدف ترشيد استخدام المياه، وتعظيم العائد من وحدة المياه.

وتراجعت حصة نصيب المواطن المصري من المياه إلى حدود 600 متر مكعب سنويا، في حين أن حد الفقر المائي يبلغ ألف متر مكعب في السنة، وفق تصريحات مدبولي، وإذا نزل عن 500 متر مكعب يدخل المواطن المصري حد الفقر المائي المدقع.

وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قد ألمح قبل سنوات إلى وجود أزمة محتملة، وقال خلال افتتاح بعض المشروعات مطلع عام 2018، إن مصر تقوم بأكبر مشروع في تاريخها لمعالجة مياه الصرف الصحي من أجل حل مسألة "محتملة"، مشيرا إلى أنه لن يسمح بوجود مشكلة مياه في مصر.

وأكد السيسي أن معالجة المياه معالجة ثلاثية، حتى لا يترتب عليها أي آثار سلبية على صحة المواطن المصري، ما يعني أن معالجة مياه الصرف من أجل توفير مياه للشرب وليس للري فقط.

50 مليار دولار.. ليست كافية

وخلال مؤتمر أسبوع المياه بالعاصمة اللبنانية (بيروت) في أبريل/نيسان 2019 ، أعلن وزير الري المصري محمد عبد العاطي عن "الخطة القومية للمياه" في مصر بتكلفة 50 مليار دولار، وذلك لمواجهة نقص المياه في البلاد، وتستمر حتى 2037.

وتحتاج البنية التحتية للمياه استثمارات تقدر بـ45 مليار دولار إضافية عن الاستثمارات في المشروعات الأساسية حاليا، وفق تقرير صدر في 2018 عن البنك الدولي حول البنية التحتية في مصر.

وتقول الحكومة المصرية إنها تعمل على مواجهة نقص المياه من خلال عدة مسارات من بينها التحلية، حيث أعلنت في أغسطس/آب 2019 اعتزامها بناء 39 محطة لتحلية المياه بقدرة 1.4 مليون متر مكعب يوميا بتكلفة تقدر بنحو 29.3 مليار جنيه، لتصل القدرة الإجمالية لتحلية المياه في مصر إلى ما يزيد عن مليون متر مكعب يوميا فقط (الدولار يساوي 15.75 جنيها).

إضافة إلى تدشين 52 محطة معالجة لمياه الصرف الصحي في الصعيد، قادرة على توفير 418 مليون متر مكعب سنويا تكفي 8 ملايين شخص بتكلفة إجمالية 8.1 مليارات جنيه، وفقا لتصريحات سابقة لوزير الإسكان عاصم الجزار.

 

سد النهضة يهدد مصر التي تعاني أصلا من الفقر المائي (الجزيرة)

 

لا بديل للنيل

لكن مثل هذه الحلول لا يمكن اعتبارها بديلا عن نهر النيل، وفق الخبير الاقتصادي والأكاديمي، محمود وهبة، وتأتي في إطار زيارة الموارد المائية لا أكثر.

وفي حديثه للجزيرة نت، أكد أستاذ الاقتصاد السابق بجامعة نيويورك، أنه لا توجد بدائل اقتصادية لتعويض أي نقص محتمل في مياه نهر النيل بعد تخزين المياه خلف السد الإثيوبي واستكمال بنائه، مهما روج الإعلام المصري لهذا الأمر.

في بلد يتجاوز عدد سكانه 100 مليون نسمة، وهذا الرقم مرشح للزيادة سنويا، يعتقد وهبة أن توفير المياه بهذه الطرق يحتاج إلى رأسمال يفوق طاقة الاقتصاد المصري الذي يعاني أصلا من الديون.

وفي لقاء سابق على الجزيرة مباشر قبل أيام، أكد وهبة أن مصر تعاني بالفعل من الفقر المائي، موضحا أن الدولة تطرح 3 حلول في هذا السياق؛ لكنها لا تجدي نفعا من الناحية الاقتصادية.

خطط حكومية طموحة

لكن خطط الحكومة المصرية الطموحة لا تتوقف عند هذين المسارين، التحلية والمعالجة، فهناك العديد من الإجراءات التي اتخذتها في هذا الصدد من بينها، بحسب وزير الري، مشروعات الحماية من أخطار السيول، ودراسة استخدام أصناف جديدة من المحاصيل تستهلك كميات أقل من المياه، والإدارة الرشيدة للمياه الجوفية لضمان استدامتها.

وقال وزير الري المصري في تصريحات متلفزة إن مصر استعدت لجميع السيناريوهات منذ 5 سنوات، وعمدت الحكومة المصرية إلى تقليل مساحات زراعة الأرز والموز وقصب السكر، وهي المحاصيل الأكثر ربحية للفلاح.

كما لجأت الحكومة إلى تبطين الترع ومحاولة فرض منظومة حديثة للري بدلا من الطرق التقليدية القديمة، وإصدار قانون الموارد المائية والري، الذي يكلف الفلاح المصري رسوما إضافية وأعباء مالية جديدة.

البرلماني المصري، أيمن محسب، دافع عن تلك الإجراءات وقال في تصريحات صحفية سابقة، إن مشروع تبطين الترع يستهدف توفير أكثر من 5 مليارات متر مكعب من المياه.

وتهدف الحكومة المصرية إلى الانتهاء من المشروع القومي لتبطين الترع، بأطوال تصل إلى 7 آلاف كيلو متر، وبتكلفة كلية تبلغ نحو 17.5 مليار جنيه بحلول منتصف عام 2022.

خطوات متأخرة

في هذا السياق، يقلّل خبير المياه والسدود، محمد حافظ، من نجاعة تلك السياسات الحكومية لمواجهة آثار نقص مياه نهر النيل، موضحا أن مثل هذه السياسات متأخرة جدا، ولا يمكن اعتبارها بديلا حقيقيا عن نهر النيل، ولا توجد خطط أو مشروعات قادرة على توفير النقص الكبير في المياه، الذي سوف يتسبب فيه السد الإثيوبي.

وفي حديثه للجزيرة نت، أشار حافظ إلى أن مسألة تبطين الترع على سبيل المثال لن توفر أكثر من مليار أو مليار ونصف المليار متر مكعب سنويا، وليس كما تروج الحكومة؛ لأن غالبية الترع في مصر جوانبها طينية ومعدل فقدان المياه قليل نسبيا.

وحذر من أن مثل هذه الإجراءات سوف يدفع ثمنها الفلاح البسيط، الذي يدفع ضرائب غير مبررة، بالإضافة لارتفاع أسعار البذور والسماد، لافتا إلى أنه قريبا جدا سيتم تخفيض مقننات الري، بهدف تخفيض كميات مياه الري لمواجهة تحديات توابع سد النهضة.

ذر الرماد في العيون

بدوره، وصف الأكاديمي والخبير الزراعي، عبد التواب بركات، إجراءات الحكومة المصرية وسياستها المائية الجديدة بأنها "لذر الرماد في العيون"، وغير مجدية، وكل ما تعلنه من مشاريع في هذا الصدد؛ مثل تحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصرف والتحكم في الزراعات وتبطين الترع أشبه بالهروب إلى الأمام، على حد قوله.

وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح بركات أن كل ما أعلنت عنه الحكومة لا يمكن أن يوفر مياه الشرب لأكثر من 100 مليون إنسان ونحو 9 ملايين فدان، مع الأخذ في الاعتبار الزيادة السكانية المطردة، مطالبا النظام المصري أن يحافظ على حقوقه المائية بأي شكل وطريقة كانت، بدلا من الإنفاق على مشروعات مكلفة.

واعتبر بركات أن هناك قرارات تضر بالفلاح وبمهنة الفلاحة في مصر، وتهدد الأمن الغذائي لملايين الأسر المصرية، التي تعتمد على الزراعة، مثل تقليص مساحات زراعة الأرز، المحصول الإستراتيجي للمصريين، وفرض غرامات على الفلاحين المخالفين، والإبقاء على المادة المتعلقة بحبس المخالفين.

 قوانين وإجراءات جديدة

وشدد السيسي في أبريل/نيسان الماضي على أهمية تطوير منظومة إدارة مياه الري بالاعتماد على الوسائل الحديثة والذكية، واعتماد أحدث تقنيات الري الزراعي في العالم، وذلك بإنتاج أجهزة مجسات متطورة لقياس مستوى الرطوبة في التربة بدقة عالية.

وطالب خلال اجتماع مع الحكومة، بتوفير تلك الأجهزة بأسعار وكميات مناسبة لتكون في متناول الفلاحين؛ ما يعني تحميل المزارعين أعباء تلك التقنية الجديدة، وذلك بالتنسيق بين الهيئة العربية للتصنيع، ووزارات الري والزراعة والإنتاج الحربي.

وفي نهاية مارس/آذار الماضي، وافق مجلس النواب المصري على قانون الموارد المائية والري، المثير للجدل، والذي وصفه نقيب الفلاحين حينها حسين أبو صدام بأن ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، ولم يعرض للمناقشة المجتمعية، إذ تضمن عقوبات سالبة للحريات وفرض رسوم وغرامات كبيرة على مخالفة ما تقرره السلطة من نظم لاستخدام المياه للري والزراعة.

المصدر : الجزيرة