تراجع الصحافة المصرية.. إرادة مسؤولي السلطة أم استسلام أصحاب المهنة؟

حاولت الشرطة عرقلة وصول الصحفيين لمبناهم  فامتلأت بهم شارع عبدالخالق ثورت خارج المبنى، (تصوير خاص، شارع عبدالخالق ثروت بالقاهرة، 4 مايو 2016 )
احتجاجات سابقة لصحفيين مصريين أمام مقر نقابتهم (الجزيرة)

يقف عبد الحميد في صف قصير أمام شباك تذاكر مترو الأنفاق، ثم يحصل على تذكرة غير مخفضة، يمضي بها لاعنا ذلك اليوم الذي انفصمت فيه عرى المودة بين الصحفيين والحكومة، بعد قرارات الجمعية العمومية الملتهبة للصحفيين التي انعقدت في مايو/أيار 2016.

امتيازات شتى كان الصحفيون يتمتعون بها -ومنها الاكتفاء بدفع نصف قيمة تذاكر الركوب بالمواصلات العامة- لكنها تلاشت تدريجيا بقرارات حكومية خلال السنوات الماضية.

وتأزمت علاقة الصحفيين مع الحكومة لدرجة وضع عراقيل أمام أعمال الصحفيين، وقيام مسؤولين بتوجيه إهانات بالغة للصحفيين خلال مؤتمرات وتغطيات صحفية.

ويتذكر عبد الحميد يوم الرابع من مايو/أيار 2016، معتبرا أنه اليوم الذي اعتبرت فيه الدولة أن "الصحافة أصبحت خصما"، لتسحب منهم امتيازات كانت تعينهم على تأدية أعمالهم، حسب ما قاله للجزيرة نت.

استرداد المهنة

ويبدو الشعور بالمرارة من التعنت الحكومي ضد الصحفيين سائدا بينهم، وبارزا في منشوراتهم داخل مجموعات مغلقة على فيسبوك، ولا يقتصر فقط على الشكوى من تعنت السلطة، ولكن من تفضيلها أيضا للبرامج التلفزيونية على الصحف، بما فيها الحكومية، والشكوى من تراجع دور الصحافة عموما بدخول وسائط جديدة منافسة للصحف.

في المقابل، يرى صحفيون آخرون أن ما جرى في هذا التاريخ، الذي يسميه صحفيون "يوم عمومية كرامة الصحفيين"، كان أقل رد ممكن على قيام وزارة الداخلية باقتحام مقر نقابة الصحفيين بالمخالفة للقوانين، لاعتقال صحفيين كانا متواجدين فيها، وبدا اليوم فرصة لاستعادة وضع المهنة، كما يجب أن تكون.

واعتبر الكاتب الصحفي كارم يحيى في خطاب ترشحه لموقع نقيب الصحفيين أنه "على رأس الممارسات الممنهجة لإفساد الصحفيين وتأميم الصحافة، تأتي الامتيازات التي كانت مقدمة لهم، ومنها الزيادات الموسمية للبدلات، والمصاحبة للانتخابات، وكأنها رشوة لانتخاب المرشح الحكومي".

وتحل مصر في المرتبة 166 من إجمالي 180 دولة، وفقا للترتيب العالمي لحرية الصحافة.

استسلام الصحفيين

بدروه، يرى الصحفي حازم حسن أن الحكومة لم تعد ترى في الصحف أهمية لها، وكانت في الماضي تنظر لها بوصفها إحدى أدواتها للتأثير في الجماهير.

ومضى حسن في حديثه للجزيرة نت بالقول إن الصحفيين يتحملون جانبا مما جرى للمهنة، حيث استمرأ بعضهم مكاسب عابرة على حساب المهنة، كما جاؤوا لمجلس النقابة بأعضاء مقربين من الحكومة ظنا منهم أنهم سيجلبون مزيدا من المكاسب، فذهبوا هم بالمكاسب والمناصب وكسروا المهنة والنقابة.

من جهته، اعتبر الناشر الصحفي هشام قاسم أن اتجاه السلطة لتكميم وتأميم الصحافة واضح، لكن الصحفيين أنفسهم يتحملون جانبا من ذلك بالانحناء للسقف الحكومي المنخفض، بل إن بعضهم -ممن يسميهم الثعالب الماكرة الصغيرة- صدمه شخصيا بأن صار ملكيا أكثر من الملك.

وأضاف قاسم أنه بات الاعتقاد السائد أن العلاقة مع الأجهزة الأمنية هي مناط الصعود والترقي، في ظل انبطاح كامل لنقابة الصحفيين إزاء السلطة بسبب طلب الخدمات، حسب وصفه.

أزمة البدائل

وفي حديثه للجزيرة نت، لا يرى قاسم في الوسائط الجديدة تهديدا للصحافة، بل إضافة لها، لافتا إلى وجود نماذج عالمية تمكنت من تجاوز إشكالية الوسائط الجديدة المنافسة للصحافة، وحققت أرباحا من ورائها، باعتبار القارئ وليس المعلن هو مصدر الربح، وكان يمكن للصحف المصرية أن تنجح لو توفرت لها الكوادر الإدارية التي تدرك الجدوى الاقتصادية بنموذج تجاري ناجح للإعلام.

واعتبر أن تأثير برامج "توك شو" محدود بفئة متلقيه، ومعظمهم محدودو الثقافة والتعليم، ودون موقف فكري أو سياسي محدد، ويمكن أن يتلاشى تأثير مذيعي السلطة تماما لدى هؤلاء في مناخ حر، مؤكدا أن برامج "توك شو" لا يمكن أن تكون بديلا للصحافة، كما يسعى النظام الآن لتحقيقه على أسس هشة للغاية.

وأعرب المتحدث عن اعتقاده بأن منصات التواصل الاجتماعي تحولت إلى بديل مؤقت للصحافة في ظل هذا المناخ الخانق للحريات، رغم الملاحقات الشرطية لأفراد عاديين يكتبون آراءهم فيها.

وفي تقدير هشام قاسم يمكن لهذه المنصات أن تشكل دورا مهما في مناخ حر مأمول في مصر، باعتبارها منصات للتشاركية الشعبية في معرفة الخبر وتقييم رد الفعل، والمساعدة في نهضة الصحافة من جديد بالترويج لموادها، لكنها أبدا لن تكون بديلا عن الصحافة التي يلجأ إليها الناس للتوثق من الخبر.

شهر انفصام العلاقة

وعدّ مراقبون مايو/أيار 2016 أشد الأعوام التهابا في علاقة الصحافة بالسلطة عبر تاريخها في مصر، عقب اقتحام الشرطة مبنى النقابة، في الأول من هذا الشهر، قبل ساعات من اليوم العالمي لحرية الصحافة، وخلال احتفالات النقابة بعيدها الماسي.

وتداعى الصحفيون لجمعية عمومية في الرابع من الشهر ذاته، وانتهت بتوصيات بضرورة احترام وزارة الداخلية القانون، ومنع نشر اسم أو صورة وزير الداخلية وقتها، ومطالبة الرئيس عبد الفتاح السيسي بالاعتذار وإقالة الوزير، والإفراج عن جميع معتقلي الرأي من السجون والصحفيين المحبوسين في قضايا النشر.

واتشحت الصحف آنذاك بالسواد، واعتبر الصحفيون أنفسهم في اعتصام مفتوح إلى حين تحقيق المطالب، أو تصعيد الأمر لإضراب عام.

وبعد أيام من الجمعية العمومية قاد نقيب الصحفيين الأسبق والراحل مكرم محمد أحمد صحفيين ورؤساء تحرير عدد من الصحف -حصلوا لاحقا على مزيد من المناصب والمزايا، وبينها عضوية مجلس الشيوخ- لانشقاق ضد قرارات الجمعية العمومية، تحت اسم جبهة تصحيح المسار.

ويعلق نقيب الصحفيين -وقت الاقتحام- يحيى قلاش على ذلك بالقول "لن يغير من حقيقة ما جرى مواقف كل الذين تم تكليفهم لتنفيذ مخطط تخريب المسار الذي أسموه زورا تصحيح المسار"، حسب وصف قلاش عبر صفحته بفيسبوك.

واعتبر قلاش أن كل ما وصلت إليه المهنة والنقابة من أوضاع قاتمة جاء بعد "تولي بعض كومبارسات فيلم المسار المواقع وجلسوا على الكراسي عراة من الضمير والكفاءة".

يذكر أن قلاش نفسه كان قد اعتقل خلال الأزمة مع عضوين بمجلس النقابة، بتهمة إيواء صحفيين مطلوبين أمنيا.

غياب الحرية

في هذا السياق، يؤكد الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للصحافة قطب العربي أن السبب الجوهري لتراجع الصحافة في مصر هو غياب الحريات وسيطرة السلطة على وسائل الإعلام، من قبل تأزم العلاقة، إذ كانت السلطة تضمر الشر للصحافة منذ اليوم الأول لانقلاب يوليو/تموز 2013، ثم أصبحت الصحف ومواقعها الإلكترونية نشرات موحدة، باستثناءات قليلة جدا لها مظلة من الحماية من الخارج، وهي محجوبة عموما.

وعزا العربي -في حديثه للجزيرة نت- انصراف المصريين عن متابعة الصحف المصرية المكممة إلى توافر نوافذ جديدة للتعبير، فضلا عن بروز الإعلام المعارض الخارجي.

ويرى أن ذلك انعكس على أرقام توزيع الصحف، التي باتت توزع أقل من 200 ألف نسخة يوميا، حسب الأرقام المتوافرة، ولم تعوضها البرامج التلفزيونية التي باتت تعتمد على القدرات الاستعراضية لمقدمها دون محتوى حقيقي، إذ يردد المذيع ما يملى عليه من الضابط المكلف بالإعلام، وكل بطريقته الخاصة في الأداء، حسب وصفه.

المصدر : الجزيرة