تضارب في المواقف بعد دعوة البطريرك الماروني إلى "تدويل الملف اللبناني"

دعا البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى "تدويل الملف اللبناني" ثم حذّر بابا الفاتيكان فرنسيس من "إضعاف المكوّن المسيحي مما يهدد بالقضاء على التوازن الداخلي" في هذا البلد.

Michel Aoun - Bechara Boutros al-Rahi - - BEIRUT, LEBONAN - AUGUST 29: (----EDITORIAL USE ONLY – MANDATORY CREDIT - " Lebanese Presidency / HANDOUT" - NO MARKETING NO ADVERTISING CAMPAIGNS - DISTRIBUTED AS A SERVICE TO CLIENTS----) Lebanon's Christian Maronite patriarch Bechara Boutros al-Rahi speaks to the press following a meeting with Lebanese President Michel Aoun, at Baabda Palace in Beirut, Lebonan on August 29, 2018.
تصريحات الراعي هي الأولى من نوعها على لسان أعلى مرجعية مسيحية (الأناضول)

بينما تتوالى عجلة الانهيار في مختلف مرافق البلاد، طرأ سجال جديد على الساحة السياسية في لبنان إثر دعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى "تدويل الملف اللبناني"، باعتبار أن سوء الأوضاع في البلاد بلغ درجة تستوجب طرح قضيته في مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة.

ومنذ تعثر تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري، جاءت دعوة الراعي التي أعلنها في عظة الأحد، وهي الأولى من نوعها على لسان أعلى مرجعية مسيحية؛ ثم تبعتها -الاثنين- تصريحات من بابا الفاتيكان فرنسيس عن ضرورة أن "يشهد ​لبنان​ التزامًا سياسيًا، وطنيًا ودوليًا، يسهم في تعزيز الاستقرار، في بلد يواجه خطر فقدان هويته الوطنية، والانغماس داخل التجاذبات والتوترات الإقليمية"، محذرًا من "إضعاف المكوّن المسيحي مما يهدد بالقضاء على التوازن الداخلي".

ورأى محللون أن توقيت هذه الدعوات يأتي في ظل تعثر المبادرة الفرنسية التي يسعى الفرنسيون إلى إنقاذها باتصالات الرئيس إيمانويل ماكرون مع الأميركيين وبعض الدول العربية، وهو ما يفسر إعلان الراعي استنفاد جميع "المبادرات والوساطات اللبنانية والعربية والدولية".

علي مراد: هناك عدم اكتراث عربي ودولي لحجم الكارثة في لبنان (الجزيرة)

ماذا يعني التدويل؟
يمكن القول إن الراعي حدد عناوين إشكالية تدفع من وجهة نظره إلى طرح قضية البلاد بمؤتمر دولي خاص، ومن بينها معالجة وحدة الكيان ونظام الحياد، وتوفير ضمانات دائمة للوجود اللبناني، ووضع حدّ لتعددية السلاح (التي تمس حزب الله)، وسد الثغرات الدستورية والإجرائية تلافيًا لتعطيل آلة الحكم عند كل استحقاق لانتخاب رئيس وتشكيل حكومة.

وكانت محطات "التدويل" منعطفًا مفصليًا بين مرحلة وأخرى قبيل انتهاء الحرب الأهلية، بدءًا باتفاق الطائف في السعودية (1989)، ثم اتفاق سان كلو في باريس (2007)، واتفاق الدوحة (2008) الذي طوى أزمة بين قوى الموالاة والمعارضة استمرت 18 شهرًا.

وهذا ما يعود إليه الأكاديمي اللبناني علي مراد، معتبرًا أن الدعوة للتدويل هي نتيجة انعدام تكافؤ الفرص في إدارة الخلاف السياسي، خصوصًا بعد عودة الاغتيال السياسي الذي بلغ أخيرًا الباحث والناشط المعارض لحزب الله لقمان سليم.

لكن المفارقة في دعوة الراعي، وفق مراد، أنها نادرة بعد الحرب الأهلية منذ 40 عامًا، فلبنان ليس على جدول الأولويات إقليميًا في ظل ضغط الصراعات "المُدوّلة"، من الملف اليمني إلى السوري والعراقي والليبي، حسب قوله.

وقال مراد -للجزيرة نت- إن طرح القضية اللبنانية في مؤتمر دولي لا ينتظر طلب اللبنانيين، بل يستدعي إرادة دولية، وإنه "بينما هناك عدم اكتراث عربي ودولي لحجم الكارثة، وتحديدًا بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، فكأن هناك تسليما بهيمنة حزب الله ومن خلفه إيران على الواقع اللبناني".

ويربط الأكاديمي بين دعوة البطريرك ونداء البابا من منطلق إثارة الخوف من أن الأزمة الاقتصادية تهدد الوجود المسيحي، لكنه "حتى هذا الهاجس الذي قرعته أجراس الكنيسة بروما لم يلقَ تجاوبًا دوليًا للتدخل المباشر من أجل إنقاذ لبنان".

تعددية السلاح
ورأت بعض القوى أن طرح الراعي البحث في "تعددية السلاح"، يشرّع أبواب الخارج للتدخل بالشأن اللبناني، مما أدى إلى انقسام عمودي في المواقف بين حلفاء حزب الله وخصومه.

وهنا يرى قاسم هاشم نائب كتلة التنمية والتحرير (برئاسة نبيه بري حليف حزب الله) أن دعوة الراعي ليست في مكانها، "لأن الخلاف على تشكيل الحكومة هو أزمة داخلية تتعلق بالمصالح والمكاسب السياسية والفئوية"؛ وأن الذهاب إلى التدويل تعتريه مخاطر كبيرة في مرحلة مصيرية يكتنفها تقاطع المصالح دوليًا.

وقال هاشم -للجزيرة نت- إن العالم بأغلبيته صار حاضنا للعدو الإسرائيلي الذي يشكل خطرًا وجوديًا على لبنان، في حين يحتل جزءًا من أرضه بمزارع شبعا، ويعبث بثرواته النفطية والمائية عند الحدود.

ورفض هاشم تناول الراعي مسألة "تعددية السلاح"، مذكّرًا بالإستراتيجية الدفاعية التي تضمن حق المقاومة، مما يجعل سلاح حزب الله، وفق رأيه، غير قابل للنقاش داخليًا ولا دوليًا.

مصطفى علوش اعتبر أن تأثير شهادة السنيورة سيكون مؤقتا لأن المحكمة لم تعد في حسابات حزب الله
مصطفى علوش: التدويل صار الحل الوحيد (الجزيرة)

لكن نائب تيار المستقبل (برئاسة الحريري) مصطفى علوش، يستغرب معارضة دعوة الراعي، باعتبار أن لبنان بلد مُدوّل أصلًا، وتحديدًا منذ إطلاق المبادرة الفرنسية في أغسطس/آب 2020.

ورأى في حديث -للجزيرة نت- أن التدويل صار الحل الوحيد، وأن تأجيل البحث في عدم شرعية سلاح حزب الله ليس إلا هربًا من جوهر الأزمة التي صارت تحتاج إلى ضغط دولي كبير، بعد أن فشلت كل المبادرات الداخلية.

ولفت علوش إلى أن تياره السياسي يدعم دعوة الراعي، ويُذكّر أن الأهداف الإقليمية لسلاح حزب الله هي التي جعلت لبنان بلدًا قابلًا للتدويل، مضيفا "ثم ترافق الوضع مع انهيار اقتصادي ومالي أجبرنا على مناشدة صندوق النقد الدولي ودول الخليج لمساعدتنا".

أمّا تحذيرات بعض القوى من أن يمهد التدويل إلى فرض بنود "الفصل السابع" من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يجيز لمجلس الأمن التدخل في حال وقع "تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملًا من أعمال العدوان"؛ فيجد فيها علوش تهويلًا على اللبنانيين لتخويفهم "لأن تنفيذ بنوده يستدعي حدثا طارئا كبيرا".

ورأى مراقبون أن دعوة الراعي قد تسبب إحراجًا كبيرًا لرئيس الجمهورية وفريقه السياسي الذي يحظى بأغلبية التمثيل المسيحي بالبرلمان.

ورغم عدم صدور أي موقف رسمي من التيار الوطني الحرّ (برئاسة جبران باسيل)، فإن مستشار باسيل -أنطوان قسطنطين- أكد رفض تدويل الملف اللبناني، وحدّد -للجزيرة نت- المجالات التي يمكن أن يطلب بها لبنان تعاونًا دوليًا، مثل التصدي لوباء كورونا واستعادة الأموال المنهوبة والتدقيق الجنائي والتحقيقات بشأن انفجار المرفأ.

وأضاف "لا يمكن أن نقبل تدويل الشأن الداخلي المتعلق بتشكيل الحكومة، أو مسألة تطوير النظام والبحث بالدستور".

وقال قسطنطين إن تياره يتفهم موقف الراعي الذي يسعى إلى تحييد لبنان عن صراعات المنطقة؛ و"نحن أيضًا نرفض تدخل حزب الله في صراعات خارج حدود لبنان، لكن النقاش بشأن السلاح يكون تحت إطار الإستراتيجية الدفاعية لمواجهة إسرائيل، ومن دون أن ننسى مواجهة حزب الله سابقًا للإرهاب الآتي من الحدود الشرقية".

ويوضح المستشار رفض فريقه زجّهم في مقاربات طائفية، معتبرًا أن تمنيات البابا هي شهادة حق لما يرمز إليه الدور المسيحي بلبنان.

وفي وقت تتفاقم فيه الأزمات وتختلط الأوراق السياسية، يترقب لبنان موقفًا سياسيًا منتظرًا من الحريري بشأن تشكيل الحكومة في ذكرى اغتيال والده رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط، في حين تنشط المساعي الفرنسية مع الحديث عن زيارة محتملة قريبًا لممثّل ماكرون -باتريك دوريل- إلى لبنان.

المصدر : الجزيرة