آخر قائد لحزب بن علي يتحدث للجزيرة نت عن التقارب مع راشد الغنوشي

يقول الغرياني إن الانطباع الذي رسخ في ذهنه عن قيادات حركة النهضة في الثمانينيات، كان الانضباط الشخصي والتنظيمي والتمكن المعرفي والثقافي، والدليل على ذلك المستويات الأكاديمية والعلمية الهامة التي حازوها في الطب والحقوق والاقتصاد

محمد الغرياني آخر أمين عام لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي في عهد بن علي (الأوروبية)

لا تزال القراءات متباينة حول رحلة العبور التي قطعها محمد الغرياني، آخر أمين عام لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي؛ من قيادة الذراع السياسية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، إلى مستشار رئيس مجلس النواب التونسي المكلّف بملف المصالحة الوطنية، وذلك بين من يرى أن النظام القديم نجح في إعادة "تدوير" نفسه، ومن يعتبرها أولى خطوات رأب الصدع بين أبناء الوطن الواحد.

وشغل الغرياني منصب أمين عام حزب التجمع الدستوري الديمقراطي من 2008 حتى سقوط نظام بن علي في 2011، وتم إيقافه وسجنه من 2011 إلى 2013 بتهم تتعلق بأنشطته ومسؤولياته الحزبية، ثم عاد إلى النشاط السياسي عبر الالتحاق بالعديد من الأحزاب، مثل حركة "نداء تونس"، وحزب "المبادرة"، ثم حزب "تحيا تونس"، الذي استقال منه بموجب مهامه الجديدة كمستشار سياسي لرئيس مجلس النواب.

تعيين الغرياني -الذي أعلن عنه رسميا في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2020- سبقته تسريبات وتلته مواقف حادة من بعض ممثلي الشعب تحت قبة البرلمان التونسي، رافضة هذا "التطعيم" للفريق الاستشاري لراشد الغنوشي، الذي واجه بدوره انتقادات حتى من داخل حركة النهضة التي يرأسها، والتي أفرزت تساؤلات عديدة حول كواليس هذا التعيين والهدف من ورائه، الذي جعل الغنوشي يتحمل من أجله هذا الكم من الاتهامات والانتقادات.

جذور الالتقاء

يقول الغرياني إن معرفته بقيادات الاتجاه الإسلامي (التسمية السابقة لحركة النهضة) ترجع إلى بداية الثمانينيات، التي وافقت سنوات دراسته الجامعية طالبا في العلوم الاجتماعية، ويرى أن الحياة الطلابية في تلك الفترة كانت فضاء مناسبا للاحتكاك بالعديد من التيارات الفكرية والسياسية الشابة والمندفعة نحو تحقيق الذات، وتعديل الكفة مع نظام بورقيبة؛ نظرا للفراغ الأيديولوجي الذي شهدته البلاد في تلك الفترة.

ويضيف للجزيرة نت أن الانطباع الذي رسخ في ذهنه عن قيادات حركة النهضة في تلك الفترة كان الانضباط الشخصي والتنظيمي، والتمكن المعرفي والثقافي في العديد من المجالات العلمية والفكرية، والدليل على ذلك المستويات الأكاديمية والعلمية المهمة التي حازوها في الطب والحقوق والاقتصاد، رغم التضييق والمظالم التي مروا بها في عهد كل من بورقيبة وبن علي.

ويعتبر الغرياني أن هذا الانطباع الجيد والدفين الذي تركته تلك الفترة لديه ولدى العديد من كوادر وسياسيي التجمع سابقا؛ كان وراء المطالبة ومنذ سنة 2000 تقريبا "بمراجعة الحركة الدستورية والخروج بها نحو انفتاح أكبر في المشهد السياسي، ولكن الأمور بقيت على حالها"، حسب قوله.

وأضاف أن التقارب الحالي بينه وبين الغنوشي يرجع في الأساس لقناعته بضرورة تدارك هذا الإخفاق في تجديد العائلة الدستورية من ناحية المرجعية الفكرية لاستيعاب المرحلة الجديدة.

لم أقفز من القارب

ويقول الغرياني في هذا الصدد -على المستوى الشخصي- إن الحتميات التاريخية والتحولات التي يفرضها الواقع تتطلب إعادة القراءات مع الكثير من التصالح مع الذات، لا سيما أنه في 2014 كان أول سياسي من الصفوف الأولى في نظام بن علي قدّم اعتذاره للشعب التونسي على ما اقترفته المنظومة السابقة من انتهاكات وتجاوزات غير موصوفة وفساد.

أما على المستوى السياسي، فإنه يرى أن التجاذبات والتوترات السياسية التي تطغى على المشهد الحالي دليل على إخفاق جزئي للعدالة الانتقالية في مفهومها الشامل وبصيغتها الحالية، وهي تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تصحيح المسار، الشيء الذي يشترك في إدراكه مع رئيس مجلس النواب والعديد من السياسيين أيضا من مختلف التيارات الفكرية، وهو مبدأ وأساس مهمته الحالية كمستشار سياسي.

ويعتبر أن قبوله الانضمام إلى ديوان رئيس مجلس النواب "ليس هروبا من قارب العائلة الدستورية، ولا تبرؤا من سجل سياسي قديم، بقدر ما هو محاولة لإرسال إشارات ذات دلائل قوية على إمكانية زوال الأحقاد والضغائن التي خلّفتها عقود من الظلم والتفرّد بالسلطة، من دون المساس بالشروط الأساسية التي بنيت عليها فكرة المصالحة".

تعيين وجدل

وأثار تعيين الغرياني جدلا في الأوساط السياسية التونسية، أبرزها مواقف بعض القياديين في حركة النهضة، الذين اعتبروا هذا التعيين أحادي الجانب من قبل رئيس مجلس النواب، وأنه لم يحتكم إلى قراءة سليمة لارتباط الغرياني بنظام قمع التونسيين ولا تزال ملفاته مطروحة.

وذهب آخرون إلى حدّ وصم الغرياني بخيانة الدستوريين والتوعّد بمنعه من دخول مكتبه.

وفي هذا الصدد، يؤكد الغرياني للجزيرة نت تفهمه للأصوات التي عارضت تكليفه مؤخرا بملف المصالحة الوطنية، "رغم أن هذه الأصوات نصبت نفسها خصما وحكما في الوقت ذاته"، ويعتبرها من بوادر المخاض العسير لمصالحة متكاملة ستشمل -حسب رؤيته- أيضا الجوانب الاجتماعية والنفسية التي تمثل المحرك والدافع الأساسي للمشاحنات السياسية الحالية، و"تعطي للاستئصاليين هامشا مهما للتحرك لإذكاء نعرات الانقسام وإقصاء الآخر".

وأضاف أن الانتقادات التي وجهت له على خلفية هذا التعيين، بما في ذلك تضارب المصالح باعتبار مسؤولياته الحزبية سابقا أو التملص من أدران الماضي، أو لرئيس مجلس النواب على أساس الخروج عن مسار الثورة ومغازلة خزانات أيديولوجية لدعمه؛ لا علاقة لها بالواقع، وأن المقترحات التي يعمل عليها والتي ستطرح قبل نهاية الفترة النيابية الحالية كفيلة بدرئها نهائيا، مؤكدا أن مهمته الجديدة "ليست حجر تيمم وطهارة لنفسه أو لأي كان، بل حجر بناء لتونس الجديدة "، حسب قوله.

المصدر : الجزيرة