والي بغداد وعينه السلطان العثماني شيخا في الحرم النبوي.. داود باشا آخر ولاة المماليك في العراق

أصول داود باشا تعود إلى مماليك العراق الذين حكموا هذا البلد منذ منتصف القرن 18 إلى الربع الأول من القرن 19.

تعد إصلاحات داود باشا من الأسس المهمة في تحقيق النهضة الحديثة للعراق – مواقع التواصل
إصلاحات داود باشا من الأسس المهمة في تحقيق النهضة الحديثة للعراق (مواقع التواصل)

في مثل هذه الأيام من أواخر فبراير/شباط 1817، تقلّد داود باشا الولاية على بغداد بأمر من السلطنة العثمانية بعد عزل سلفه سعيد باشا، وشهدت فترة حكمه عهدا من النهضة والتقدم لم يألفه العراق منذ زمن طويل، حيث قام بإصلاحات تعليمية واقتصادية وعسكرية مهمة.

وتعود أصول داود باشا إلى مماليك العراق، وهم سلالة من الولاة حكموا هذا البلد منذ منتصف القرن 18 إلى الربع الأول من القرن 19، وتعود أصولهم إلى عدة مناطق من آسيا الوسطى (جورجيا، وبلاد الشركس وداغستان، وبلاد جبال القوقاز الأخرى)، حيث استمر حكمهم للعراق زهاء 82 عاما.

الجميلي قال إن داود حظي باهتمام كبير من الوالي سليمان باشا قبل أن يعزله بوشاية من أمه  (الجزيرة)

نشأته

ولد داود باشا عام 1767 في مدينة تبليسي بجورجيا، ثم اختطف من أهله عندما كان عمره 11 عاما، وجاء به أحد النخاسين وباعه في بغداد، وتنقل من شخص إلى آخر حتى انتهى به المطاف إلى الوالي سليمان باشا، بحسب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في الجامعة المستنصرية سعد الجميلي.

ويشير الجميلي للجزيرة نت إلى اهتمام سليمان باشا بمملوكه داود، حيث لم يدخر جهدا في العناية به وتعليمه وتثقيفه. فانكب داود بهمة ونشاط، ودرس اللغة العربية والفقه، كما أجاد القرآن الكريم، ودرس التصوف والبيان والبديع وعلم التفسير وغيرها، ثم زوّجه سليمان إحدى بناته.

ويُعزى سبب هذا الاهتمام إلى أن سليمان عانى من نفس الظروف التي مر بها داود، فقد كان عبدا يباع في الأسواق، كما أنه تزوج من ابنة سيده أحمد باشا.

ويسترسل الجميلي بالقول: ولما تبوأ سعيد باشا الحكم وأصبح واليا على بغداد، قرب منه داود وكلّفه ببعض المهام، قبل أن يعزله من وظيفته بسبب وشاية من أمه التي كانت تسيطر عليه وتتدخل في شؤون الحكم.

وبشأن وصوله إلى الحكم، يقول الجميلي إن داود انتقل بعد عزله للعيش في مدينة كركوك، ثم صدر أمر بتعيينه واليا على بغداد بدلا من سعيد باشا الذي رفض التخلي عن منصبه، فحدثت انتفاضة من أهالي بغداد ضده، فدخل داود بغداد وأخذ الناس يتوافدون إليه معبّرين عن ترحيبهم به وتأييدهم له.

وينبه الجميلي إلى أن داود باشا تقلّد ولاية بغداد وعمره 50 عاما، وكان يعرفه الأهالي بالفضيلة والمزايا الحسنة، لكنه وجد الخزينة خاوية والجيش لم يستلم رواتبه بسبب إسراف سعيد باشا.

من جانبه، يقول الأستاذ المساعد في التاريخ الإسلامي الدكتور رغيد الخالدي إن داود باشا استطاع فرض هيمنته السياسية الفعالة على ولاية بغداد، ووصل أثر هذه السياسة إلى الولايات الأخرى، واستمر حكمه مدة 14 عاما، وقد تأثر كثيرا بالوالي محمد علي في مصر.

الخالدي: غزو المغول وعمليات القتل والحرق والتدمير أصاب كل الحياة في بغداد- الجزيرة نت
الخالدي أشار إلى أن داود باشا عمل على تأسيس جيش نظامي وصنع المدافع والبنادق الحديثة (الجزيرة)

نهضة وتقدم

وأظهر داود باشا براعة سياسية وإدارية، ونفذ سلسلة من الإصلاحات المهمة جدا في عدة مجالات، منها العسكري والاقتصادي والعمراني والثقافي.

ويبين الخالدي للجزيرة نت كيف عمل داود على تأسيس جيش نظامي، وأصدر أوامره بصنع المدافع والبنادق على الطراز الجديد، فضلا عن تكوين الوحدات المنظمة والمدربة التي بلغ تعدادها ما يقارب 10 آلاف، بين مدفعية ورجالة.

أما فيما يخص إصلاحاته الاقتصادية، فيقول الخالدي إن داود باشا اعتنى بالزراعة وأصدر أوامره بشق الترع وحفر الأنهار للاستفادة من مياهها الضائعة وزيادة الأراضي الزراعية، مما انعكس على كثرة المحاصيل وتنوعها.

وفي مجال الصناعة والتجارة، يؤكد الخالدي قيام داود بافتتاح العديد من المصانع، واستملاك البواخر التجارية الصغيرة النهرية والبحرية، وقد خطط لشق قناة تربط بين نهري دجلة والفرات لتيسير الملاحة التجارية فيهما، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ.

وتمثلت إنجازاته العمرانية بتشييد الجوامع والمدراس والخانات والأسواق، وكانت كل إنجازاته هذه تحمل أبياتا شعرية تخلد بانيها.

أما في مجال اعتنائه بالتعليم، فيرى الخالدي أنه كان في علمه وفضله يعد أول راع للنهضة الأدبية في العراق، فقد كان أعرف الناس بأهلها وما هي عليه من ضعف وإهمال، فبث في البلاد روحا علمية جديدة لا عهد لها بها منذ زمن طويل.

ويوضح بالقول إن داود باشا التفت إلى النهوض بمجال التعليم، فجدد المؤسسات العلمية حتى بلغ عددها 28 مدرسة ومعهدا في عهده، كما بنى مدرسة حملت اسمه، ووقف خزانة كتب نفيسة في جامع حيدر خانة ببغداد.

وكذلك اهتم بتجديد مناهج التعليم وطرق التدريس، وكان مجلسه حافلا بوجوه الأدباء والشعراء ومشاهير الكتّاب، وأدنى إليه أساتذته ومن له فضل عليه من العلماء في أيام تعليمه، وأغدق عليهم الأموال، فأقبل الناس على العلم والأدب والشعر.

ويلفت الخالدي إلى أن إصلاحات داود باشا تعد من الأسس التي كان لها دور في تحقيق النهضة الحديثة للعراق فيما بعد.

الراوي: داود باشا قام بأعمال يستشف منها أنه كانت له نزعات استقلالية (الجزيرة)

نهاية حكمه

ويذكر المؤرخون أن فترة حكم داود باشا لم تخلُ من سلبيات، فقد كان يقسوا على الرعية بشدة في جباية الأموال، ويجور عليهم بشكل غير مألوف.

ويشير الخالدي إلى أنه أقصى كل من لم يواله من الشيوخ العرب، كما اصطدم مع "الأغوات" و"البكوات" الأكراد، ولا سيما أسرة بابان حكام السليمانية الذين تحالفوا من الفرس القاجاريين، ولكنه خسر الحرب بسبب تفوق الفرس العسكري، وهذه الهزيمة أغضبت الدولة العثمانية.

كما قام داود باشا بمجموعة من الأعمال التي يستشف منها أنه كانت له نزعات استقلالية، ومنها تأسيس جيش قوي، وكسبه لأهالي بغداد ووجهائها، كما يفيد الدكتور عماد كريم الراوي المتخصص في تاريخ الدولة العثمانية.

ويضيف الراوي للجزيرة نت أن الدولة العثمانية تنبهت إلى مساعي داود باشا فأرسلت قوة بقيادة "علي رضا باشا" والي حلب لعزله، وكانت بغداد تشهد أوضاعا قاسية بسبب الحصار والمعارك بين داود بشا ورضا باشا، حيث فتك الطاعون بالناس وأخذت أعداد الإصابات تزداد، وضاقت المقابر بالجثث، كما استغل السرّاق والصعاليك الأوضاع ودخلوا بغداد، وشهدت المدينة عمليات سلب ونهب، كما أغرقت الفيضانات أزقتها ومساكنها بسبب ارتفاع مناسيب دجلة.

وكل هذه الأوضاع -كما يفيد الراوي- دفعت داود باشا إلى الاستسلام، فبعثه علي رضا باشا إلى إسطنبول رفقة عائلته، وبعث معهم رسالة طالب فيها الحكومة العثمانية بالصفح عنه، وهو ما حصل فعلا.

ويذكر الجميلي أن السلطان عبد المجيد، عيَّن داود باشا شيخا في الحرم النبوي الشريف عام 1844، حيث تفرغ للعبادة حتى وفاته.

المصدر : الجزيرة