بعدما أنكر وجود "أمة جزائرية".. تراجع ماكرون هل أقنع الجزائر بتطبيع العلاقات؟

تدرك السلطة الجزائرية أن المراهنة على ماكرون مستقبلا غير مجدية، إذ تبيّن استطلاعات الرأي ألا حظّ له في الانتخابات الفرنسية القادمة. إضافة إلى إدراكها "محاولة فرنسا إعادة بسط نفوذها في مالي واللعب تحت الطاولة بالمنطقة".

في ذكرى استقلال بلد المليون شهيد.. الجزائر بين ثورة وحراك
الجزائريون غاضبون من تصريحات الرئاسة الفرنسية ويدركون أن تراجعها لمصلحة في ليبيا وأفريقيا (الفرنسية)

الجزائر- يقرأ سياسيون في الجزائر أن فرنسا لا تزال تُدير علاقاتها مع الجزائر بمنطق المدّ والجزر، وبما يشبه عمليات الكر والفرّ، من خلال التصريحات والردود المضادة بين الجانبين، فكلما شعرت باريس بخطورة التوتر مع مستعمرتِها القديمة، أرخت لها حبال الودّ.

وعلى إثر الرد الجزائري على ما توصف بـ"استفزازات إيمانويل ماكرون في حق الأمة الجزائرية" مؤخرا، عادت الرئاسة الفرنسية لتصريح قبل يومين اعتبره محللون "توضيحا يشبه الاعتذار المبطّن".

وقال قصر الإليزيه مساء الثلاثاء الماضي إن "ماكرون يكنّ احتراما كبيرا للأمة الجزائرية ولتاريخها ولسيادة الجزائر، وإنه يأسف للجدل الذي خلفته التصريحات المنقولة عنه".

وقال مستشاره الرئاسي إن "ماكرون متمسك بتطوير العلاقات بين الجزائر وفرنسا من أجل مصلحة الشعبين، ومواجهة التحديات الإقليمية وخاصة الأزمة الليبية".

ووصف الجزائر باللاعب الرئيسي في المنطقة، معربًا عن أمل ماكرون في مشاركة نظيره الجزائري عبد المجيد تبون يوم الجمعة المقبل في مؤتمر باريس حول ليبيا، لكن وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة صرح مساء أمس الأربعاء بأن "الظروف ليست مواتية لمشاركة الرئيس تبون شخصيا في مؤتمر باريس بشأن ليبيا".

وجاءت تصريحات المتحدث باسم الرئيس الفرنسي تصحيحًا لما اعتبر "إنكارا" من جانب ماكرون لوجود أمة جزائرية قبل دخول الاستعمار الفرنسي، وذلك خلال استقباله 18 شابا فرنسيا من أصل جزائري ومن مزدوجي الجنسية لمناقشة مسألة "مصالحة الشعوب"، وفق ما نقلته جريدة "لوموند" (Le Monde) الفرنسية في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وزاد تعليق ماكرون على وضع السلطة الجزائرية من تشنّج الموقف بقوله إن "النظام السياسي العسكري في الجزائر تم بناؤه على ريع مرتبط بالذاكرة، وإنّه منهك بسبب الحراك".

الرئيس تبون يستبعد نهاية الخلاف مع فرنسا قريبا ويرفض المبادرة بالتسوية (الجزيرة)
الرئيس عبد المجيد تبون استبعد نهاية الخلاف مع فرنسا قريبا (الجزيرة)

لا تصالح قريبا

ولم تمرّ تلك التصريحات برْدا ولا سلاما على باريس، فقد جاء رد فعل الجزائر سريعًا وغير متوقع الحدّة، برأي مراقبين، عبر إجراءات عملية وبيان شديدة اللهجة من قصر المرادية، رافضا أي تدخّل في شؤونها الخاصة.

واستدعت الجزائر مباشرة سفيرها من فرنسا محمد عنتر داود للتشاور، قبل الإعلان لاحقا عن تقديم أوراق اعتماده سفيرا مفوضا فوق العادة لدى إمارة موناكو.

كما منعت السلطات الجزائرية الطائرات العسكرية الفرنسية من التحليق فوق أجوائها في إطار رحلاتها نحو الساحل الأفريقي.

ومن جهتها هاجمت مجلة الجيش -لسان حال المؤسسة العسكرية في الجزائر- إيمانويل ماكرون في عددها لشهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، فكتبت "لقد اختلط على الرئيس ماكرون فشل سياسته ونكسات تاريخ بلاده، فلم يعد يفرق بين الواقع والوهم، وبين الحقيقة والإفك، وبين المعرفة والجهل.. ودواء هذا الداء هو الاعتذار أو على الأقل الصمت".

وفي مقابلته مع أسبوعية "المرايا" الألمانية الجمعة الماضية، استبعد الرئيس تبون "احتمال نهاية الخلاف بين باريس والجزائر في المدى القريب"، مجددا "رفض الجزائريين عودة العلاقات بين البلدين".

وشدّد تبون على موقفه بالقول "لن أكون أول من يخطو لاستئناف الاتصالات وإلا سأخسر كل الجزائريين".

ولم يصدر أي تعليق جزائري رسمي بخصوص التصريح الجديد حتى مساء أمس الأربعاء، بل إن صحيفة "لوبينيون" (L’Opinion) الفرنسية أوردت أن الرئيس تبون رفض الرد هاتفيا على نظيره الفرنسي.

مراوغة لسانية

وفي قراءة لتصريح الرئاسة الفرنسية، قال المحلل الجزائري بومدين بوزيد إن "مسلسل الكذب والتراجعات والاختباء وراء الاستعارات تميّزت به بعض الأنظمة السياسية المعاصرة، ومنها النظام الفرنسي الذي لازمه عدم الوفاء بالوعود".

وقال بوزيد إن حكام باريس "يصرّحون بقول ثم يبطلونه، أو يراوغون لتبني غيره حسب السياقات والبراغماتية البذيئة"، وتابع "بالتالي لا نستغرب المراوغة اللسانية الاستعارية لماكرون بكون الجدال حول الجزائر وتاريخها أسيء فهمه وتمّ تأويله وأنه يحترم تاريخ الأمة الجزائرية".

أما من حيث العلاقات الدبلوماسية، يضيف بوزيد، فإنّ ماكرون يدرك التفاوت أحيانا بين الموقف الرسمي المتجاوِب مع الشّعب والقوى الوطنية وبين اللوبيات في فرنسا والجزائر التي تسعى لبقاء حبل الصُّرّة متصلا لغويا وثقافيا واقتصاديا. كما أن ماكرون يسعى للتأثير على الانتخابات في ليبيا، ولا تساعده مخرجات برلين والموقف الجزائري.

وأوضح المحلل أن السلطة الجزائرية تدرك أن أي مراهنة على ماكرون مستقبلا غير مجدية، إذ تبيّن استطلاعات الرأي أن لا حظ له في الانتخابات الفرنسية القادمة. إضافة إلى إدراكها "محاولة فرنسا إعادة بسط نفوذها في مالي واللعب تحت الطاولة بالمنطقة".

إدريس عطية العلاقات بين الجزائر وباريس صارت نديّة وعودتها مؤجلة إلى ما بعد ماكرون (الجزيرة)***للاستخدام الداخلي فقط***
إدريس عطية يرى أن العلاقات بين الجزائر وباريس صارت نديّة وعودتها مؤجلة لما بعد ماكرون (الجزيرة)

ما بعد ماكرون

ومن جانبه، رفض أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الجزائر إدريس عطية توصيف الحدث بالتراجع عن كلام ماكرون السابق، واعتبره "مجرد محاولة لضمان مشاركة الجزائر في ندوة باريس حول ليبيا، ولا تتعلق بمواقف فرنسا الثابتة تجاه الجزائر، لأنها لا تزال تناضل من أجل صمود سياستها الكولونيالية ومنطقها الأبوي".

وقال عطيّة إنها فقط "حركة لتطبيع الأمر مع الجزائر، ولا تتعلق بتصحيح السلوك الفرنسي مطلقا"، ولا يمكن اعتبارها اعتذارا رسميا، ولن يقبلها الشعب ولا النخبة الحاكمة ولا الدولة في الجزائر، بعدما سقطت فرنسا من أعلى الشجرة، على حد تعبيره.

وأوضح عطية للجزيرة نت أن زيارة الرئيس الإيطالي مطلع هذا الأسبوع للجزائر "كان لها تأثير عميق على فرنسا، خاصة وأن روما تقدم نفسها بديلا إستراتيجيا عن القوى الأوروبية".

وقال إن حوار الرئيس تبون الأخير مع الصحافة الألمانية كان حادا تجاه فرنسا، مشيرا إلى المرجعية الجديدة لصنع القرار في الجزائر "بعيدا عن باريس ودواليبها".

وشدّد عطية على أنه لا يمكن للجزائر أن تعطي فرنسا الفرصة لدخول الساحة الليبية مجددا، ولا استعادة بعض الملفات في الساحل الأفريقي، مؤكدا أن بلاده "ليست متحمسة في الظرف الحالي لأي اعتذار أو شبه اعتذار من باريس".

وتوقّع أن تواصل الجزائر موقفها التصعيدي بالتعاطي مع مؤتمر باريس على أنه "لا حدث"، وفي أحسن الظروف قد تكتفي بحضور وزير خارجيتها.

المصدر : الجزيرة