حينما يجسد الكاتب أفكاره.. محطات متوهجة للمسيري بذكرى ميلاده

عبد الوهاب المسيري خلال مظاهرات حركة كفاية المناهضة للتوريث في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك (رويترز)

القاهرة ـ "لا مال معي اليوم، هل تمهلني عدة أيام لأعطيك حقك؟"، قالها المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري لعامل كان يساعده، تطبيقا لفكرة المجتمع التراحمي الذي دعا إليه بديلا للمجتمع التعاقدي.

كان عامله الذي ينظف منزله كل أسبوع يصرّ على أن يقول عند لحظة تقاضي الأجر "خليها عليّ هذه المرة"، أي "لا داعي لأن تدفع لي هذه المرة"، ولسان حاله يقول -وفق المسيري ـ "رغم أنني أعمل خادمًا عندك وأدخل معك في علاقة تعاقدية، فإننا من الناحية الإنسانية متساويان ولا بد أن ندخل في علاقة تراحمية تتجاوز عمليات التبادل الاقتصادية (خدمات مقابل نقود)".

ولذا كان المسيري يتعمّد إخبار العامل بعدم توفر النقود لتأجيل دفع الأجرة للأسبوع التالي، لإعطائه فرصة أن يكون دائنا، من أجل تحقيق التساوي الإنساني التراحمي، كما ذكر.

يوضح المسيري أن المجتمع التراحمي باختصار هو المجتمع الذي تقوم علاقاته على التراحم والتعاطف بين أفراده، على النقيض من المجتمع التعاقدي الذي تقوم العلاقات فيه على أساس تعاقدي ومصلحي.

هذه الأطروحة المبكرة في أفكار المسيري "المجتمع التراحمي في مقابل المجتمع التعاقدي" تكشف عن جانب مهم من سماته ظلّ على ولائه لها حتى مماته، ألا وهو تجسيد أفكاره في واقعه، لا أن تظل مجرد نظريات تحلّق في الفراغ، وربما لا يكون لها نصيب من حياة المفكر أو حياة مجتمعه.

محطات التطبيق

في مسيرة المسيري محطات كثيرة لتطبيق ما آمن به سياسيا، وحتى في سنوات عمره الأخيرة ورغم مرضه لم يتوقف عن العمل على أرض الواقع؛ فعمل منسقا عاما لحركة كفاية التي أُسّست أواخر عام 2004 والتأمت فيها تيارات سياسية عدة لإحداث تغيير في الحياة السياسية، بشعار "لا لتمديد السلطة" للرئيس الراحل حسني مبارك و"لا لتوريث السلطة" لنجله جمال مبارك، ومثلت أشواق المصريين إلى التغيير نحو مجتمع العدالة السياسية والاجتماعية، الذي طالما نادى به المسيري.

المسيري الذي ولد في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1938 واختلفت الروايات في تحديد يوم الميلاد بالضبط بدأ حياته السياسية يساريا؛ فشارك في تأسيس الحزب الشيوعي المصري الذي تبنّى أفكار الأحزاب الماركسية بالدول الأخرى.

لكن سرعان ما رأى المسيري أن أفكار اليسار على نبلها الظاهر تندرج تحت "قطاع اللذة" الذي "يَعِدُ الإنسان بفردوس أرضي سيريحه تماما من عبء التاريخ، والالتزام الخلقي، والإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين"، على حد وصفه.

هذا الطريق اتجه بالإنسان الجسدي أو الغرائزي ليرشد حياته ويعيد صياغتها في ضوء لذّته الحسية المباشرة خارج أي أنساق إنسانية اجتماعية أو أخلاقية، كما قال في كتابه "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان".

ومثل مفكرين آخرين أمثال خالد محمد خالد وعادل حسين، انتقل المسيري من اليسار إلى اعتبار الإسلام حلًّا أجدى لمشاكل البشرية المادية والروحية، قائلا إن "النسبية الإسلامية هي أن يؤمن الإنسان بأن هناك مطلقا واحدا هو كلام اللّه، وما عداه اجتهادات إنسانية نسبية في علاقتها بالمطلق الذي يوجد خارجها".

والتحق الراحل بحزب الوسط -تحت التأسيس وقتئذ- باعتباره أقرب الأحزاب إلى أفكاره الجديدة، وقال في كتابه "رحلتي الفكرية" إنّ "الإيمان لم يولد داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة، ولذا فإنه إيمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية، فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية".

يحب المسيري هؤلاء الذين يطبقون أفكارهم واقعا حياتيا معيشا، لذا أثنى في أحد تصريحاته على الرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيغوفيتش ووصفه بأنه "رجل الجهاد والاجتهاد".

ولا يتعالى المسيري على مجتمعه، بل يقف أمامه متأملا متعلما منه ما توافق مع أفكاره، فامتدح فكرة تقديم أفراد المجتمع لبعضهم مساعدات مادية في مناسبات الأفراح والأتراح، باعتبارها تطبيقا عمليا لنموذج المجتمع التراحمي لا التعاقدي.

رحلة إلى الغرب

ولد المسيري وتلقى تعليمه الأولي في محافظة البحيرة بشمال مصر، وفي خضم الدعوة للتحرر الوطني وفوران الشباب بالجامعات بأفكار الدولة الناصرية الوليدة شرع الراحل في دراسة الأدب الإنجليزي بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية ابتداء من عام 1955.

وبعد إنهاء دراسته الجامعية سافر المسيري إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراساته العليا، وهناك أدرك أن "التقدم الغربي هو ثمرة نهب العالم الثالث، وأن الحداثة الغربية لا يمكن فصلها عن عملية النهب هذه"، كما جاء في كتابه الذي يلخص سيرته "رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر".

وبعد عودته درّس المسيري في جامعات مصرية وعربية وإسلامية، كما تولى عددا من الوظائف المتصلة بمجاله، ونال العديد من الجوائز والشهادات المحلية والعالمية.

عاد المسيري بفكرة أعمق عن طبيعة الصراع العربي الغربي عموما، وعن الصراع بين العرب وإسرائيل خصوصًا، ليكتب واحدة من أهم الموسوعات العربية، هي "اليهود واليهودية والصهيونية".

موسوعة الصهيونية

حفرت الموسوعة -التي قضى ربع قرن في كتابتها- اسمه بين أهم مفكري الصراع والمنظّرين له، وهي الموسوعة التي توارى في ظلها المنتج الفكري والأدبي الكبير للراحل، الذي تنوع ما بين كتابة القصة وأدب الأطفال.

هنا أيضا تطبيق جديد لأفكاره، فالموضوعية العلمية التي دعا إليها طبقها كما تراءى له في تلك الموسوعة الضخمة، إلى حد أن بعض منتقديه رأوا فيها تعاطفًا مع اليهود، لأنه كان موضوعيا وفصل بين الديانة اليهودية ومعتنقيها وبين الصهيونية.

ورأى منتقدوه أنه حاول التعاطي مع "العدو الصهيوني" على أنه ظاهرة "إنسانية" ناتجة عن صيرورة مجتمعية من خلال منطلق "لاديني خوفا من عدم الموضوعية في التحليل".

وربما دعم شيوع تلك الانتقادات ما جاء في تصريحات متفرقة للراحل قال فيها إن "الطبيعة الوظيفية لإسرائيل تعني أن الاستعمار اصطنعها لتقوم بوظيفة معينة، فهي مشروع استعماري لا علاقة له باليهودية"، وقال أيضا إن "اليهود ليسوا متآمرين بطبعهم".

لكن من تابع المفكر الراحل يجد أن أفكاره لا تحذر من الصهاينة اليهود فحسب، بل من الصهاينة المسلمين أيضا، كما قال في إحدى الندوات متنبّئا قبل 26 عاما "من الآن فصاعدا سنجد يهودا في ثياب مسلمين، اليهودي الوظيفي مسلم يصلي معنا العشاء في المسجد لكنه يقوم بالدور نفسه الذي يقوم به الجنرال اليهودي، وعليه يجب تحليل تلك الظاهرة حتى لا يتحول كثير منا إلى يهود من دون أن يدروا".

ومن خلال الموسوعة الفريدة، أسبغ على الظاهرة اليهودية بشكل خاص، وتجربة الحداثة الغربية بشكل عام نظرة جديدة موسوعية موضوعية علمية مستخدما ما عمل عليه أثناء حياته الأكاديمية من تطوير لمفهوم النماذج التفسيرية.

المثقف في الشارع

لم يشفع كل هذا التاريخ للمسيري في حمايته من التعرض للبطش إبان نظام مبارك، فاعتدى عليه مجهولون بالعاصمة القاهرة، كما تعرض للاعتقال من قبل السلطات المصرية أكثر من مرة.

وتعليقا على ذلك، صرّح المسيري بأن المثقف "لا بد أن يكون في الشارع"، مؤكدا سمته الأبرز في شخصيته، وهي تجسيد أفكاره واقعا في حياته.

صكّ المسيري عددا من المصطلحات الجديدة التي مثلت أساسا لنظرياته الاجتماعية، منها ما يسميه بـ"النزعة الجنينية" للإنسان في مقابل "النزعة الربانية"، وكذلك مصطلح (العلمانية الشاملة) المختلفة عن (العلمانية الجزئية).

انتقل المسيري إلى جوار ربه بعد معاناة مع مرض السرطان في يوليو/تموز من عام 2008، تاركا إرثا هائلا من الأعمال الإبداعية والمؤلفات الفكرية، والأمثلة الحية.

المصدر : الجزيرة