يوم جرى نهر السين بدماء الجزائريين.. 60 عاما على مجزرة أقرّ بها هولاند وماكرون

كان 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 يوما للقمع العنيف للمتظاهرين الجزائريين الذين خرجوا للمطالبة بالحرية والاستقلال بالعاصمة الفرنسية باريس حيث سقط 200 شهيد و2300 جريح.

إحياء ذكرى مجازر 17 أكتوبر 1961 بباريس
إحياء ذكرى مجازر 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 بباريس (الجزيرة)

الجزائر – عرفت ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962) محطات بارزة صنفها المؤرخون ضمن الأحداث المفصلية التي صنعت مسارها ومصيرها النهائي، بفعل صداها ونتائجها العسكرية والشعبية والدبلوماسية.

ومن تلك الوقائع الكبرى أحداث 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 بالعاصمة الفرنسية باريس، التي كان الجزائريون المهاجرون أبطالها، والتي وقعت بالتزامن مع "مفاوضات إيفيان" لاسترجاع السيادة الوطنية. ومهدت لها تطورات مترابطة، إذ قامت أجهزة الأمن الفرنسي شهر سبتمبر/أيلول عام 1961 بتوقيف وطرد مئات الجزائريين واعتقال آخرين بمركز "فانسان"، بحسب المؤرخ عبد القادر خليفي.

ويشير بيان الشرطة الباريسية يوم 23 من الشهر ذاته إلى إخضاع 29 ألف جزائري مغترب للتفتيش، وتوقيف 600 آخرين، وطرد 200 إلى الجزائر، وفق المجلة التاريخية الجزائرية (عدد يونيو/حزيران عام 2019). وأصدر وزير الداخلية روجي فري -رفقة محافظ شرطة باريس موريس بابون- في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1961 مرسوما عنصريا يحظر تجوال العمال الجزائريين بباريس وضواحيها.

وجاء ذلك على خلفية "نجاح الثورة الجزائرية دبلوماسيا، وتوالي بروز الدائنين لها من الأوساط الفرنسية، وتمكنها من تنظيم العمال الجزائريين وتوجيههم وحصولها على الأموال، وتسريب الأسلحة إلى الجزائر"، مثلما يؤكد الباحث خليفي.

عبد المجيد شيخي أحداث باريس تمثل جريمة دولة تدّعي الحضارة والرقي (الجزيرة)
عبد المجيد شيخي: أحداث باريس تمثل جريمة دولة تدعي الحضارة والرقي (الجزيرة)

رد فعل الجزائريين

غير أن مسؤولي الثورة في الخارج لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تلك الإجراءات، حيث اجتمعت اللجنة الفدرالية لجبهة التحرير الوطني وأجمعت على حتمية مواجهة التعليمات العنصرية وكسرها.

وقررت اللجنة خروج مظاهرات شعبية للمهاجرين خلال ليلتين متتاليتين بعد الساعة الثامنة مساء بكل هدوء ونظام في الطرق الرئيسية لباريس. وخرج يومها نحو 80 ألف مغترب جزائري في مظاهرات سلمية ضخمة للرد على تضييق السلطات الفرنسية، وللتعبير عن مساندتهم المطلقة لجبهة التحرير ومطالبها في الحرية والاستقلال. في حين ردت الشرطة الفرنسية من جهتها بالقمع الشديد والقتل والتعذيب والرمي من جسور نهر السين الشهير، حتى طفت الجثث على مساحة المكان.

ويوثق المجاهد علي هارون في مذكراته، حول حالات القتل بالضرب والطلقات النارية والغرق وطرق أخرى، أنه تم إحصاء 200 شهيد و2300 جريح، منهم من نقل إلى التراب الجزائري على متن باخرة خاصة لهذا الغرض، ليتم وضعهم في المحتشدات (اتبع الاحتلال الفرنسي سياسة تجميع السكان في ما يشبه المعتقلات الجماعية لمنع الثوار من التواصل مع الشعب).

واعترف الرئيس فرانسوا هولاند عام 2012 بالقمع الدموي للمتظاهرين، كما غرد إيمانويل ماكرون عام 2018 على تويتر بأن "17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 كان يومًا من القمع العنيف، وأن الجمهورية الفرنسية مطالبة بأن تواجه الحقائق حول مجازر الجزائريين بباريس".

وتحتفل الجزائر رسميا وشعبيا كل عام بالأحداث المأساوية تحت عنوان "اليوم الوطني للهجرة"، واقترح بنجامان ستورا على رئيسه ماكرون -ضمن ورقة الذاكرة- مواصلة الاحتفال الفرنسي رمزيا لتخليد وقائعها.

French soldiers marching with Algerian prisoners in 1956. The French colonial past in Algeria is a trauma that continues to shape modern France.Credit...Reporters Associes/Gamma-Rapho, via Getty Image
جنود فرنسيون يسيرون مع سجناء جزائريين عام 1956 خلال حقبة ثورة التحرير الجزائرية (غيتي)

مكاسب إستراتيجية للثورة

لكن في المقابل، شكلت المظاهرات مكسبا إستراتيجيا للثورة الجزائرية؛ إذ يرى المؤرخ لزهر بديدة أنها مثلت انتصارًا كبيرا، بإجهاضها ادعاءات شارل ديغول بكون الجزائريين مرتبطين بفرنسا ومؤسساتها وغير موالين لجبهة التحرير.

وأوضح -في تصريح للجزيرة نت- أن المظاهرات قضت على "مفاوضات الطاولة المستديرة، حيث تكون جبهة التحرير ممثلا للجزائريين مع قوى سياسية أخرى"، مثلما أسقطت فكرة "الجزائر فرنسية"، لتثبت أن الأخيرة لأهلها وسكانها الأصليين ولا يشاركهم فيها المستوطنون. وحققت الثورة حضورها الفعال والمؤثر على مستوى الرأي العام الفرنسي بضغطها داخليا وخارجيا على ديغول، للاستمرار في المفاوضات مع قيادة الثورة بجدية أكثر، حيث تم استئنافها بعد 10 أيام بمدينة بال السويسرية.

ويضيف بديدة "أثمر تحرك جبهة التحرير إقليميا ودوليا إصدار لائحة أممية يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1961 لتقرير مصير الشعب الجزائري".

لزهر بديدة المظاهرات أسقطت مخططات ديغول وفرضت عليه مفاضوات الإستقلال (الجزيرة)
لزهر بديدة المظاهرات أسقطت مخططات ديغول وفرضت عليه مفاوضات الاستقلال (الجزيرة)

كما تناقلت الصحف العالمية أخبار المظاهرات، منددة بوحشية القمع ضد الجزائريين، على غرار ما كتبه جون فاريحو على صفحات جريدة "فرانس سوار" (France soir)، وكذلك الصحافي بيار فيونسو بونتي بصحيفتي "لوموند" و"لوفيغارو".

أما شعبيا، فقد أثبتت الثورة -والكلام للمؤرخ نفسه- أنها "المتحكم والمؤثر في عموم الشعب الجزائري سواء داخل البلاد أو خارجها وبالأخص في فرنسا، وأن المهاجرين فيها جزء لا يتجزأ من الجزائريين يعيشون آلامه ويحملون آماله، ولن تفرق السياسة الفرنسية بينهم حيثما كانوا".

جريمة دولة

من جهة أخرى، وصف المجاهد عبد المجيد شيخي الأحداث بجريمة دولة تدعي الحضارة والرقي وتتبنى كل تصريحات ومواثيق حقوق الإنسان.

وأكد شيخي -وهو مستشار برئاسة الجمهورية للذاكرة الوطنية- أن "الجزائريين خرجوا في شوارع باريس عزلاً من السلاح، لا يملكون سوى أصواتهم التي سرعان ما أسكتتها عصابات سفاح سبق له قتل 45 ألف شهيد في أحداث مايو/أيار عام 1945".

وقال للجزيرة نت إن موريس بابون لم يتردد في قمع وقتل وإغراق المئات من أبناء الجزائر، في حين أصدرت بلاده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1789) كما وقعت على ميثاق الأمم المتحدة (1945) واتفاقيات جنيف (1949) وهي أساس القانون الدولي الإنساني، قبل ضربها بكل ذلك عرض الحائط يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961.

كمال فيلالي تعامل السلطات الفرنسية كان عنصريّا وخرقا فادحًا لحقوق الإنسان (الجزيرة).jpg
كمال فيلالي: تعامل السلطات الفرنسية كان عنصريا وخرقا فادحًا لحقوق الإنسان (الجزيرة)

ومن جانبه، اعتبر الخبير لدى الأمم المتحدة في القانون الدولي، الحقوقي كمال فيلالي، قرار السلطات الفرنسية وقتها عنصريا قائمًا على التمييز بين الفرنسيين والجزائريين المقيمين بباريس وضواحيها، وخرقا فادحًا لحقوق الإنسان العالمية والاتفاقية الأوروبية لسنة 1950.

وصنف الوقائع ضمن إبادة الجنس والجرائم ضد الإنسانية والتعذيب، مشددا على أن وسائل الإثبات تتطلب أدلة واضحة وقوية ضد إرادة المستعمر في التخلص من الجزائريين منذ عام 1830، ثم المتابعة على أسس قانونية كل الأفعال المحظورة في نورمبرغ 1945 ونظام روما.

وكشف -في تصريح للجزيرة نت- أن "جمعية 8 مايو/أيار 1945" الجزائرية حركت دعوة قضائية في فرنسا -وهو أحد المحامين البارزين في القضية- ضد موريس بابون باعتباره مسؤولا فاعلا رئيسيا عن الوقائع.

وتم تقديم شكوى أمام وكيل محكمة باريس في الخامس من يناير/كانون الثاني 1998، لكن القضاء الفرنسي حفظها، مما حدا بالمحامين الجزائريين إلى التأسيس باعتبارهم طرفا مدنيا باسم ضحايا وذوي حقوق.

وأوضح النائب السابق لرئيس لجنة الاتحاد الأفريقي للقانون الدولي أنه لا يستطيع تكييف الوقائع جريمة ضد الإنسانية غير قابلة للتقادم من حيث طبيعتها، وفي حال تكييفها جريمة خاضعة للقانون العام، فإنها تصبح معفى عنها بالقوانين الفرنسية الخاصة بالإعفاء لسنتي 1962 و1964.

وهو ما أكده قاضي غرفة الاتهام لمجلس قضاء باريس شهر مايو/أيار 1999، كما رفضت المحكمة العليا الفرنسية بعد سنة من ذلك الطعن بالنقض المقدم، قبل رفع دعوى أخرى أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، غير أنها رفضتها شكلا.

المصدر : الجزيرة