في ظل صراعات عرقية حادة وتباين مواقف المعارضة.. إلى أين تتجه جهود المصالحة في تشاد؟

يرى مراقبون أن جهود المصالحة في تشاد يجب أن تضع مصفوفات تعالج جذور مشكلات المجتمع التي تتسبب في اللجوء إلى العنف والحروب، ومحاولة الاستيلاء على السلطة بالقوة والانقلابات مما يتيح فرصة للتدخلات الخارجية التي تزيد الشقة بين التشاديين وتُطيل معاناتهم.

محمد إدريس ديبي أنشأ وزارة للمصالحة وعين مستشارا للمصالحة والحوار (الفرنسية)

بدا المشهد السياسي العام في تشاد بعد وفاة الرئيس ديبي الذي حكم تشاد 30 عاما فوضويا ومربكا إلى حد بعيد بسبب القبضة الأمنية التي كان يتميز بها حكمه، وحالة الإقصاء الشديدة لكل معارضيه وغيابه المفاجئ.

كل ذلك أثار جملة من المخاوف والتوقعات من انزلاق الوضع إلى حرب يصعب السيطرة عليها، بخاصة أن وفاة ديبي حدثت أثناء المواجهات مع الحركات المتمردة، مع غموض في سبب الوفاة وضبابية في المشهد العام، جعلا أطراف النزاع في الحكومة والمعارضة ترفع سقفها بالرفض القاطع لأي تفاهم أو تهدئة.

ولكن بعد مرور وقت قصير تبدّل الحال وتغيرت لغة الخطاب، وصار الهدوء والمرونة سيّدي الموقف بعد تطمينات من المجلس العسكري، وتغير سلوك الأجهزة الأمنية في التعامل مع المعارضة وأنشطتها بوجه عام.

الحكومة التشادية تبدأ تطبيق قانون الطوارئ بثلاثة أقاليم بالبلاد
تشاد تسكنها عشرات المجموعات العرقية التي تتحدث 100 لغة (الجزيرة)

وزارة للمصالحة

وحسب مراقبين، فإن تخصيص وزارة للمصالحة والحوار الوطني يعدّ أبرز المنعطفات التاريخية في تاريخ تشاد الحديث، ولكنهم يربطون ذلك بتمكنها من طرح القضايا ومعالجة المشكلات التي لم تجد اهتماما في المرحلة السابقة من خلال الحوار الجاد، وجدولة حلها وفق تراتبية الأهم فالمهم، واضعة في الاعتبار تاريخ البلاد الشائك والمملوء بالتداخلات والتشابك.

ويعيش على أرض تشاد 200 مجموعة عرقية تتحدث 100 لغة، تحيط بها مجموعة من الدول المضطربة التي تصدر عددا غير قليل من المشكلات لتصبّ مزيدا من الزيت على نار النزاعات المشتعلة منذ ما يقرب من 60 سنة.

رؤية الحكومة الانتقالية للمصالحة والحوار

فضلا عن إنشاء وزارة المصالحة الوطنية، عيّن رئيس المجلس الانتقالي محمد إدريس ديبي مستشارا للمصالحة والحوار برئاسة الجمهورية، وهذا يصنفه المراقبون في خانة إعطاء الحكومة الأولوية للمصالحة والحوار، وطي صفحة الصراعات والنزاعات التي صبغت تاريخ تشاد منذ الاستقلال، وأطلقت دعوة لجميع الأطراف السياسية بما فيها الحركات المسلحة والجماعات المتمردة للمشاركة في الحوار الوطني الذي حدد انعقاده في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2021 وأبرز ملامحها:

  • دعوة الحركات المسلحة إلى إلقاء السلاح والمشاركة في المصالحة والحوار الوطني.
  • بث تطمينات للمعارضين بجدّية الحكومة الانتقالية من خلال خطابات رئيسها ديبي الابن، ومخاطبة دول لها علاقة ببعض أطراف المعارضة من أجل إقناعها بالمشاركة في الحوار والمصالحة الوطنية؛ وقد حققت نجاحا ملحوظا في هذا الجانب.
  • تخصيص موازنة تقترب من (50%) من مجمل ميزانية الحكومة الانتقالية لفترة الـ18 شهرا هي عمر الحكومة الانتقالية لمشروع المصالحة والحوار الوطني وهو مؤشر مهم للغاية.
  • تأكيد وزير المصالحة والحوار ومستشار رئيس الجمهورية للحوار أن تكون المصالحة شاملة لا تستثني أحدا على المستويات السياسية والاجتماعية وصولا إلى مشاركة الجميع لبناء تشاد جديدة.
  • تبنّي خريطة طريق تحتوي على 25 منشطا هدفها تهيئة الحوار؛ أهم أنشطتها تنظيم حملات توعوية من أجل السلام والتعايش والتدريب على حل النزاعات الاجتماعية، وتدريب القيادات الدينية والاجتماعية على طرائق الحل السلمي للمشكلات، وتنظيم البعثات للتفاوض مع الجماعات المتمردة.

موقف المعارضة من مشروع المصالحة

كلفت الحكومة الانتقالية الرئيس الأسبق لتشاد جيكوني وداي برئاسة اللجنة الفنية التي أنيط بها تنفيذ المصالحة، إذ أعلن في مؤتمر صحفي في الأول من هذا الشهر أعمال التحضير، قائلا "علينا واجب الالتزام لإيجاد صيغة مناسبة لإنهاء الحرب وآثارها المدمرة إلى الأبد، كما أنه يجب علينا إرساء نهج يساعد على تعزيز الوحدة، وإن تحديات التنمية الاجتماعية والاقتصادية هي نقطة التقائنا".

في واقع الأمر تباينت مواقف تيارات المعارضة بين الرفض والتشكيك، والرغبة في المشاركة ووضع شروط أولية، من أبرز هذه المواقف.

  • أبدت عدد من الأحزاب السياسية استعدادها للمشاركة في الحوار والمصالحة، باعتبارها فرصة لفتح صفحة جديدة في تاريخ تشاد ومنها:
    – حزب الحريات والتنمية وافق على المشاركة وتم تعيين محمد أحمد الحبو رئيس الحزب وزيرا للعدل.
    – زعيم المعارضة صالح كبزابوا وهو رئيس حزب الاتحاد الوطني للتنمية والتجديد وافق على المشاركة في المصالحة، وتم تعيين اثنين من كبار رجالات الحزب في الحكومة الانتقالية.
    – عاد إلى البلاد مستشار رئيس تحالف قوات المقاومة المتحدة ( UFR) السيد جدي غالماي، ويرأس التحالف تيمان أردمي وهو ابن أخت الرئيس الراحل ديبي، وعُدّ ذلك إشارة مهمة إلى أن هذه المجموعة توافق على المشاركة في المصالحة.
    -عاد السيد كوري جيمي رئيس التجمع التشادي من أجل العدالة.
    -جبهة التغيير والوفاق أعلنت استعدادها للمشاركة في الحوار الوطني والمصالحة إذا كانت هناك مبادرات سلمية لبناء تشاد ديمقراطية خالية من الاستبداد.
    -الأمين العام لوفاق تشاد للدفاع عن حقوق الإنسان السيد محمد نور عبيدو وافق على المشاركة في المصالحة والحوار الوطني. وغيرهم من الشخصيات كذلك رحبوا بالفكرة وعادوا طوعا مثل حسن الفضل مؤسس حركة الأول من ديسمبر، وصديق المانج وهو نائب سابق كما أبدى آخرون ملاحظات وتقدموا بمقترحات من أجل إنجاح المصالحة والحوار.
  • بعض التيارات المُعارِضَة طالبت بمراجعة الميثاق الذي يحكم المرحلة الانتقالية حتى يستوعب مطالبها، ومطالب القطاعات التي تمثلها وقد أكد وزير المصالحة أن التعديل ممكن من أجل استيعاب الجهات التي لا يرضيها الميثاق.
  • رفضت حركة "واكت تما" -تعني بالعربية التشادية "انتهى الوقت"- المشاركة في الحوار فضلا عن الحزب الاشتراكي "بلا حدود" الذي يقوده السيد يحي ديلو (وهو من عائلة ديبي) وحزب "المغيّرون"، وتشترط هذه الحركات ضمانات من ديبي الابن للالتزام بالمرحلة الانتقالية (18 شهرا) وعدم ترشحه لرئاسيات 2022، إضافة إلى حركة واكت التي تتخذ من الجنوب الليبي مقرا وظهيرا لوجود التداخل الإثني والقبلي فيها.
  • طالب المجلس الوطني للشتات التشادي بمشاركة جهات خارجية من أجل ضمان إنجاز الحوار الوطني الشامل مثل المؤسسات الأوروبية والفرنسية، ونوقش المطلب مع نائب رئيس لجنة الخارجية والدفاع بالمجلس الانتقالي الذي بدوره تفهم الأمر ووعد بتسهيل مشاركتهم.
Presidential election in N'Djamena
من الانتخابات التي أجريت في تشاد 11 أبريل/نيسان 2021 (رويترز)

ما أبرز القضايا التي ستعالجها المصالحة؟

تحتل تشاد المرتبة 187 من 189 دولة في تصنيف درجة الفقر على مستوى العالم، وترتفع فيها نسبة الأمية إلى 68%، وتشير إحصائيات برنامج الغذاء العالمي في 2021 إلى أن 3.7 ملايين يعانون انعدام الأمن الغذائي و2.2 مليون تشادي يعانون سوء التغذية و43% من أطفال تشاد يعانون التقزم؛ هذا فضلا عن نحو نصف مليون نازح بسبب الصراعات والنزاعات الداخلية، غير أعداد المهاجرين الكبيرة التي تقدّرها بعض المصادر بالملايين.

تدلل هذه الإحصاءات على عمق معاناة الشعب التشادي، وتؤكد أن الحروب الأهلية استنزفت طاقاته ومقدراته، ومن ثم فإن جهود المصالحة يجب أن تضع مصفوفات تعالج جذور مشكلات المجتمع التي تتسبب في اللجوء إلى العنف والحروب ومحاولة الاستيلاء على السلطة بالقوة والانقلابات مما يتيح فرصة للتدخلات الخارجية التي تزيد الشقة بين التشاديين وتُطيل معاناتهم.

هل يمثل مشروع المصالحة جسرا للعبور؟

يرى مراقبون أن الحكومة الانتقالية حتى الآن تُبدي جدّية في المضي بالمصالحة إلى غاياتها على الرغم من قصر المدة التي سينجز فيها المكلفون الأعمال، وكما يبدو فإن المعارضة في الداخل في غالبها تؤيد المصالحة بشرط صدقية الحكومة الانتقالية وجدّيتها والتزامها.

وتبقى المعارضة المسلحة في الشمال التي ربما بحاجة إلى وساطات جادة تذيب ما بينها وبين الحكومة الانتقالية للوصول إلى المياه الدافئة.

جهود الأطراف الخارجية في المصالحة

كلف الاتحاد الأفريقي رئيس دولة النيجر محمد بازوم ورئيس موريتانيا ليكونا وسيطين في المصالحة ويتولّيا المساعي الحميدة بين الأطراف، فضلا عن منظمة الفرنكوفونية التي عينت مبعوثا خاصا لتشاد، كما أن كثيرا من المراقبين يتوقعون أن تبذل قطر دورا إيجابيا في تقريب وجهات النظر كما بذلت جهودا كبيرة في عدد كبير من الملفات الإقليمية المعروفة.

وتشير عدد من المصادر أيضا إلى تخوف التشاديين من الدور الفرنسي السالب الذي ترى أنه لا ينظر إلا إلى مصالح فرنسا بغض النظر عما يمكن أن يسببه من تعقيدات وما يخلقه من مشكلات وتدخلات في الشأن التشادي وهو الذي نفاه الشيخ ابن عمر وزير المصالحة بأن وجود فرنسا على الأرض التشادية لا يعني بالضرورة تدخلا في الشأن الداخلي لتشاد، فهي موجودة بحكم التاريخ.

مهمة صعبة

ليس سهلا التكهن بصيرورة الأحداث وتطورها في بلد كتشاد يشهد صراعا حادا على أسس عرقية، ويعاني من مشكلات بنيوية يصعب التعهد بحلها في وقت قصير، ويتمركز في جغرافيا وديمغرافيا متحركة، أبرز ملامحها الاحتكاكات السلبية والمعارك الصفرية، ولكن في الوقت ذاته ليس من المستحيلات أن يجد التشاديون حلولا لمشكلاتهم متى ما توفرت الإرادة وعلا الانتماء الوطني على الانتماء القبلي والعرقي، ومتى ما تواضع الجميع على أسس العيش المشترك بخاصة أن تشاد بلد زاخر بالموارد البشرية والطبيعية والثراء التاريخي في المنطقة.

المصدر : الجزيرة