"فتحات التهريب".. مصائد العمال الفلسطينيين ولقمة عيشهم المغمسة بالدم

عامل فلسطيني ينتظر دخول فتحة عند الجدار بمنطقة الخليل جنوبي الضفة الغربية (الجزيرة)

بعد أيام من تلقيه العلاج في المشفى الحكومي بمدينة طولكرم (شمال الضفة الغربية)؛ يعود الشاب معاوية العايش إلى منزله في مدينة نابلس؛ ليكمل العلاج فيه، إثر إصابته برصاص الاحتلال الإسرائيلي الأسبوع الماضي خلال قطعه للطريق محاولا الدخول للعمل في إسرائيل.

عبر فتحة أُحدثت في حاجز الفصل المعدني، الذي أقامته إسرائيل على طول حدودها مع الضفة الغربية المحتلة عام1967، أراد العايش وعمال آخرون اجتياز الشبك بعد أن أغلقت إسرائيل منافذها بوجه العمال بذريعة كورونا، واضطرتهم لسلك طرق التفافية للوصول إلى مناطق عملهم.

عند الثالثة والنصف فجرا كان معاوية (25 عاما) قد وصل إحدى "فتحات التهريب" في قرية فرعون قرب مدينة طولكرم، وهي واحدة من أكثر من 30 فتحة في تلك المنطقة، وفي الظلام الدامس تحسس أي انتشار لجنود الاحتلال في الجهة الأخرى، وحاول العبور بعدما ظن أن الطريق خال، فإذا بالرصاص يخترق جسده وجسد الآخرين.

كان الجنود يختبئون بين الأشجار، وأطلقوا النار من مسافة قصيرة (أقل من 10 أمتار) تجاه العمال، وأصابوا 10 بينهم 6 وصفت إصابتهم بالخطيرة، ومنهم معاوية الذي كسرت ساقه أيضا.

رأفت صلاح بعد إصابته برصاص حي في رجله خلال محاولته اجتياز فتحة جنوب مدينة جنين بالضفة الغربية (الجزيرة)

حياة "ممرمطة"
ولوقت طويل ظل معاوية ينزف، وغاب عن الوعي قبل نقله للمشفى، ويقول في روايته للجزيرة نت إن الجنود تعمدوا إطلاق النار بهدف القتل أو الإعاقة، واستخدموا الرصاص الحي والمتفجر المعروف بـ"التوتو".

منذ 3 أعوام أنهى معاوية دراسته الجامعية، وباءت كل جهوده بالبحث عن وظيفة تعينه على شظف الحياة بالفشل، فاضطر للذهاب والعمل داخل إسرائيل، واتخذ من خطبته سبيلا للحصول على التصريح، ففرصة المتزوجين أكبر من غيرهم في ظل اشتراطات الاحتلال لمنح التصاريح.

والفتحات التي تزيد عن 130 من شمال الضفة إلى جنوبها هي ثقوب أحدثها فلسطينيون للدخول والعمل بإسرائيل، وقد يفتحها جيش الاحتلال لخدمته أمنيا؛ لكنه يراقبها دوما، ويعرف أماكن انتشارها.

ومثل معاوية واجه عامل البناء رأفت صلاح من قرية برقة (شمال مدينة نابلس) موتا محققا، بعد أن أصابته رصاصة حية بجروح خطيرة أثناء عبوره فتحة قرب مدينة جنين (شمال الضفة الغربية) قبل أسبوعين، وبصعوبة تمكن زملاؤه من سحبه ونقله للمشفى.

وبلهجته يصف صلاح (27 عاما) حياة العامل الفلسطيني بأنها "مريرة؛ فهو يغادر منزله بعيد منتصف الليل، ويظل لساعات يراقب الطريق بالتواصل مع عمال آخرين، يدخلون عبر جماعات متفرقة خشية أن يستفرد جنود الاحتلال بأي عامل قد يمسكونه.

ويضيف "الوقت الذي يقضيه العامل بالتنقل عبر الحواجز والفتحات أكثر من وقت وجوده مع أسرته وبين أطفاله".

حتى العمال الذين يمرون عبر الحاجز يواجهون معاناة لا تنتهي من الازدحام وإجراءات الاحتلال (الجزيرة)

إجراءات وظروف عمل قاسية
ومنذ مارس/آذار الماضي أغلقت إسرائيل حواجزها، ومنعت دخول العمال، الذين يقدر عددهم بنحو 180 ألف عامل (نظامي ومهرب) ضمن إجراءات كورونا، ثم سمحت لاحقا لعمال البناء والزراعة بالعبور وفق إجراءات مشددة وأوقات محددة.

يقول الاتحاد العام لنقابات العمال إنه مع الإغلاق الإسرائيلي كان العمال أمام خيارين؛ إما البقاء في منازلهم أو الذهاب بلا عودة على مدار 60 يوما لمواقع عملهم بناء على أرباب العمل الإسرائيليين، وفعلا لجأ العمال لاجتياز الحواجز العسكرية و"فتحات التهريب" على حد سواء.

ويقول العامل عماد أبو سيف -الذي يوثق بجواله أحداث الفتحات يوميا- إن الجنود في أغلب الأحيان يمطرونهم بقنابل الغاز المسيل للدموع، وهذا "أشبه بفطور يومي يتلقاه العمال"، فضلا عن طرق الإذلال في التنقل والاختباء بين الشجر وفي العراء والبرد الشديد.

وبشيء من الضحك الممزوج بالسخرية يروي أبو سيف (59 عاما) للجزيرة نت كيف أنهم يمارسون "رياضة الصباح" جبرا وذلا، حيث يقطعون عدة كيلومترات محفوفة بالخطر للوصول لأقرب مركبة تقلهم لأماكن عملهم.

ولهذا يضطر أبو سيف للمبيت داخل إسرائيل في ظروف "غير إنسانية"، وبأسعار باهظة "أقلها 10 دولارات للفرشة في الليلة، ومع عدد كبير من العمال في غرفة واحدة".

الجدار بين بلدة الطيبة داخل الخط الأخضر وأراضي قرية فرعون جنوب طولكرم (الجزيرة)

وقبل أزمة كورونا لم يكن أبو سيف يواجه معضلة بالمرور عبر الحاجز؛ فعمره فوق 55 عاما، وهو من الذين تسمح لهم سلطات الاحتلال بالدخول بدون تصريح؛ لكنهم مُنعوا نهائيا بعد كورونا من الدخول، كما تمنع إسرائيل دخول أي عامل يصاب بكورونا -هو أو أقرباؤه المباشرون- لأكثر من شهر.

والمشاركون في القوى العاملة الفلسطينية بمن فيهم "العمال في إسرائيل" بلغوا وفق إحصاءات الاتحاد العام لنقابات العمال الفلسطينيين حوالي مليونا و340 ألفا و200 شخص خلال الربع الأخير من عام 2019 في الضفة الغربية وغزة، وبلغ معدل البطالة بينهم في الفترة نفسها حوالي 25%، كما وصل عدد العاطلين عن العمل حوالي 334 ألفا و100 شخص في الفترة نفسها.

ثمة شيء غير الرصاص قد يواجه "عمال الفتحات"، الذين يقدرون بأكثر من 60 ألفا، فاعتقال أي منهم يعني امتهانه بالحجز لأكثر من 20 ساعة، وهو مكبل اليدين في البرد أو تحت أشعة الشمس، إضافة لتغريمه بمبالغ كبيرة، وتوثيق اسمه كمخالف، وبالتالي حرمانه من التصريح مستقبلا.

وأكثر ما يتهدد العمال خاصة من غير حملة التصاريح حرمانهم من أي حقوق مادية من نهاية الخدمة، والأتعاب، أو تعويضهم عن أي أضرار قد تصيبهم فضلا عن عدم مساواتهم في الأجر مع العمال الآخرين علاوة عن النصب والاحتيال.

يقدر عدد العمال الفلسطينيين بأكثر من 60 ألفا (الجزيرة)

دمهم على أكفهم
ورغم أن أحدا من العمال لم يستشهد عند الفتحات؛ إلا أن الإصابات بالرصاص الحي تقدر بالعشرات، والمئات من حالات الاختناق اليومية بالغاز المدمع، وتشير بيانات اتحاد النقابات إلى أن 62 عاملا قضوا شهداء للقمة العيش داخل أماكن عملهم عام 2020، و73 آخرين في 2019 لأسباب كثيرة أهمها عدم توفر أدوات السلامة والظروف الملائمة من مشغلهم الإسرائيلي.

ويرجع عدنان العاصي، أمين سر الاتحاد لنقابات العمال في طولكرم، هذا التصرف من الجنود بإطلاق نار على العمال؛ لتشكيل حالة من الضغط على السلطة الفلسطينية وعلى العمال أنفسهم، "وليس لوجود ثغرة أمنية" كما يدعي الجيش كل مرة.

ويصف العاصي في حديثه للجزيرة نت، العامل الفلسطيني كمن "يحمل روحه على كفه"؛ وهذا ليس حال "عمال الفتحات"، الذين يواجهون مصيرا مجهولا بالإصابة أو الاعتقال والاحتجاز، وإنما العمال الذين يمرون عبر الحواجز حيث الازدحام والتأخير، "وكل ذلك حسب مزاجية الجنود".

بعد 40 يوما سيعود معاوية للمشفىح ليزيل الجبيرة عن قدمه المصابة، وبعد 3 أشهر ربما تسمح ظروفه الصحية بالعمل، وكذلك حال الشاب رأفت صلاح؛ لكن هذا لن يمنعهم من المرور مجددا عبر الفتحات، فالظروف الاقتصادية بائسة والالتزامات كبيرة.

المصدر : الجزيرة