عمال الموانئ.. آخر قلاع السلم في بورتسودان

Labourers carry sacks near the port in Port Sudan at Red Sea State
عمال في ميناء بورتسودان (رويترز)

جمعت الأرزاق الآلاف من عمال الشحن والتفريغ المعروفين في ميناء بورتسودان باسم "الكلات"، وفرقهم الصراع القبلي الناشب بالمدينة المطلة على البحر الأحمر منذ مايو/أيار 2019.

ورغم الشلل الذي يصيب المدينة الساحلية كلما فرضت الحكومة المحلية حالة الطوارئ وحظر التجول للسيطرة على المواجهات القبلية فإن عمل "الكلات" في الموانئ ظل مستمرا.

وإبان كل مواجهة يتسلل سكان الأحياء الفقيرة من النوبة والبني عامر وغيرهم إلى الميناء والمخازن الملحقة به للعمل، فهناك تجمعهم المصالح.

لكن تبقى المشكلة قائمة عندما يعود العمال المنهكون إلى تلك الأحياء المقسمة قبليا في حي دار النعيم الذي يقطنه قبيلة البني عامر، وحي فيليب الذي تسكنه قبيلة النوبة.

ولنحو 15 شهرا مضت نشبت مواجهات دامية بين قبيلتي النوبة والبني عامر، إلى جانب مواجهة أخرى بين الهدندوة والبني عامر في نوفمبر/تشرين الثاني الفائت.

الاشتباكات بين قبيلتي البني عامر والنوبة في بورتسودان خلفت عشرات القتلى (الصحافة السودانية)

انقسام قبلي
وبعد أول صراع بين النوبة والبني عامر في العام 1986 اتجه حوالي 20 ألفا من عمال "الكلات" في الموانئ للانقسام لتكون كل قبيلة على حدة "كلة" تخص منسوبيها.

لكن النزاعات الأخيرة حفرت عميقا في نفوس هؤلاء العمال لتشتد وطأة التقسيم على أساس "عنصري" رغم أن الظلم ومكان العمل وأهازيج "الكلات" تجمعهم، والكلات جمع "كلة" وهي مجموعة من 10 ـ 14 عاملا يمتهنون الشحن والتفريغ يدويا.

وعندما اقتربنا من "كلة" للنوبة والتي كان أفرادها منشغلين بتحميل بالات القطن وكانوا يختلسون النظر إلينا بتوجس، وما إن عرّفناهم بأننا صحفيون حتى ثارت ثائرتهم وبدؤوا بالصراخ "هذا مكان عمل وليس مكان سياسة.. لا نريد أي كلام".

وكان لافتا أن أحد أفراد كلة النوبة ينتمي لمكونات منطقة البحر الأحمر وليس من شعوب جبال النوبة التي هاجرت منذ عشرات السنين إلى بورتسودان بقصد العمل في الموانئ.

دخل قليل
ويعيش أغلب عمال الشحن والتفريغ على 3 دولارات يوميا للعامل في أحسن ظروف توفر العمل.

ويقول إبراهيم كرتكيلا كدفور -وهو رئيس "كلة" من النوبة- إن عماله يعملون بيومية تصل في أفضل حالاتها إلى ما بين 600 ـ 700 جنيه، وهو ما يعادل نحو 3 دولارات.

وآثر كرتكيلا الحديث للجزيرة نت بعد أن ابتعد عن عماله قائلا "نعمل 3 أو 4 أيام، وبعدها ربما لا نجد عملا لأسبوع، العمل متعب ولا يوجد تأمين اجتماعي ولا طبي".

ويشير إلى أن انعدام ضمانات استمرار العمل، وعدم وجود رواتب ثابتة في ظل الدخل الضعيف الذي لا يكفي قيمة المواصلات ووجبة الإفطار وإعاشة أسرة العامل يجعلهم يحسون بعدم الأمان.

ويقول كرتكيلا إنه ظل يعمل منذ العام 1985 عندما كان يحسب التحميل بالمليم حتى تغير النظام للحساب بالقرش قبل عامين، والآن يناضل الكلات للحساب بالجنيه.

أهازيج العمل
وفي مخزن قريب من "كلة" النوبة كانت "كلة" البني عامر تعمل في تحميل السمسم المعد للتصدير، وسط أهازيج للحماسة تمجد "برؤوت" -وهو الاسم المحلي لمدينة بورتسودان- بإنشادهم: "سودانا برؤوت جبال عالي.. خرطوم بلد غالي".

وبحسب صالح محمد محمود رئيس كلة البني عامر للجزيرة نت فإن المداخيل الشحيحة لعماله تجعلهم منهكي الأجساد وبلا رعاية صحية مناسبة.

ويقول إن "الكلة" مهنة بلا ضمانات اجتماعية أو صحية، لأنها عمل شاق وقاسٍ باليومية "أي بمعنى رزق اليوم باليوم".

ولا يبدو محمود منشغلا بالصراع القبلي لجهة أن جميع الإثنيات في المدينة تعمل في مهنة الشحن والتفريغ، وهمها تحسين ظروف عملهم أكثر من الانشغال بالصراع.

وفي السياق ذات، يقول كرتكيلا إنه ظل يعمل في هذه المهنة منذ سنة 1985، وقد شهد نشوب أول صراع بين قبيلته النوبة والبني عامر في بورتسودان عام 1986، وشهد المواجهات الأخيرة لكنهم ابتعدوا بعملهم عن الاحتكاكات.

وقبل أن يهم كرتكيلا بالعودة إلى عماله داعب صديقه حسين من قبيلة البني عامر، ثم غادر المكان.

ثمة مؤامرة
وفي مقر الجمعية التعاونية لعمال الشحن والتفريغ لا يخفي محمد نور عبد الله الموظف التابع لإدارة التعاون استغرابه من نشوب صراع قبلي بين مجموعة تعمل في مكان واحد وتردد الأهازيج ذاتها.

ويبدي عبد الله قناعته بأن ما يجري بين النوبة والبني عامر ليس فتنة قبلية، لأنها إذا كانت كذلك يجب أن تنتقل إلى مكان العمل الذي يجمعهم.

ويعزو سكرتير عام جمعية عمال الشحن والتفريغ عثمان محمد بالعيد عدم انتقال الصراع بين الكلات رغم الأجواء المشحونة في المدينة إلى أن الكلات بجميع قومياتهم واتجاهاتهم يخلعون ثوب القبيلة والحزبية بمجرد وصولهم إلى مكان العمل.

ويشير إلى أن العمال في السابق -سواء كانوا نوبة أو البني عامر أو هدندوة- يعملون مع بعضهم في "كلة" واحدة ومخزن واحد قبل اشتعال الصراع.

ويقر بالعيد -الذي يرأس جمعية عمال الشحن والتفريغ منذ العام 1967- بافتقار الكلات إلى أبسط الحقوق المتعلقة بالتأمين الطبي والاجتماعي، لكنه يشير إلى مساع مع هيئة الموانئ لتحسين الأجور.

سنّة التطوير
وتبدو مطالب تحسين ظروف عمال الشحن والتفريغ ترفا في ظل مهنة "الكلات" القابعة في مهب الريح جراء سنّة التطور، حيث إن كل عروض الشراكات الأجنبية لتطوير موانئ السودان كانت تصطدم بمصير عمال الشحن والتفريغ.

وطبقا لبالعيد، فإن الجمعية تستعد لرياح التطوير التي ستهب لا محالة بشركة مملوكة للكلات توفر عملية الشحن والتفريغ عبر الآلات.

ويراهن مدير عام الهيئة العامة للموانئ البحرية بالإنابة عصام الدين حسابو على شركة عمال الشحن والتفريغ حتى لا يكون "الكلات" ضحية لخطط التطوير القادمة.

ويرى في حديث مع الجزيرة نت ضرورة أن تكون الحكومة السودانية شريكة في أي استثمار أو شراكة لتطوير الموانئ لمراعاة "كلات" الموانئ.

وحتى ترى شركة عمال الشحن والتفريغ النور وتضع حرب القبائل أوزارها سيظل حال "الكلات" بثيابهم الرثة الملتصقة بأجسادهم النحيلة من فرط درجات الحرارة والرطوبة كما وصفه الشاعر السوداني الراحل محمد الحسن سالم حميد والتي تغنى بها الراحل مصطفى سيد أحمد:

"ﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻤﺪﻥ.. ﻛﻼﺕ ﺍﻟﻤﻮﺍﻧﻲ

ﺍﻟﻐﺒﺶ ﺍﻟﺘﻌﺎﻧﻲ

ﺑﺤﺎﺭﺓ ﺍﻟﺴﻔﻦ.. ﺍﻟﺸﻐﻼﻧﺘﻮ (عمله) ﻧﺎﺭ

ﻭﺍﻟﺠﻮ ﻛﻴﻒ ﺳُﺨﻦ".

المصدر : الجزيرة