انفجار بيروت.. "ست الدنيا" تواصل نكباتها

Aftermath of Tuesday's blast in Beirut's port area
دائرة تأثير الانفجار اتسعت لتطال معظم العاصمة اللبنانية (رويترز)

كأنه قُدّر لبيروت أن تظل مدينة التناقضات والنكبات، فالمدينة التي عرفت في ستينيات القرن الماضي "بباريس الشرق" ولؤلؤته، كونت لوحة فريدة من جمال الطبيعة وإشعاع الفكر مخضبة بلون الدماء، منذ استقلال لبنان في عام 1943 وحتى اليوم.

في أواسط القرن الماضي، استقطبت بيروت بتنوع تضاريسها، الذي ميزها عن غيرها من مدن الشرق، مختلف السياح الذين سحرهم اجتماع البحر بالجبل، والمرتفعات التي تكتسي الأخضر صيفا وتستبدله ببياض الثلج شتاء، وأغرى جمالُها الفنانين والشعراء، فغنت لها "قيثارة السماء" فيروز "من قلبي سلام لبيروت وقُبل للبحر والبيوت"، ووصف مفاتنها الشاعر جبران خليل وجلعها "الأنثى التي تمنح الخصب".

وليس جمال الطبيعة فحسب ما يميّز بيروت، بل تعاقب الحضارات التي تعود إلى أكثر من 5000 سنة كما قدرتها بعض المراجع التاريخية، وكان للفينيقيين واليونانيين والرومان والعرب والعثمانيين آثارهم وشواهدهم التاريخية التي جعلت منها مركزا ثقافيا انعكس على مواقعها الأثرية وطريقة عمرانها التاريخي، كما جعل منها موقعها على البحر الأبيض المتوسط نقطة التقاء مختلف الثقافات، الأمر الذي ساهم في إثراء الحركة الثقافية والفكرية والأدبية.

وعرفت بيروت عهدها الذهبي في ستينيات القرن العشرين حين صارت مأوى للمفكرين والشعراء والكتاب بسبب الحرية المطلقة للصحافة والفكر التي تميزت بها، فاحتضنت المفكرين والأدباء والسياسيين من كل المشارب والأيديولوجيات.

وتحوّلت المدينة التي ربطت الثقافة الغربية بالثقافة العربية، إلى عاصمة للنشر والطباعة نظرا لتعدد دور النشر فيها، وأقيم فيها أول معرض للكتاب في العالم العربي بالجامعة الأميركية عام 1956، كما جعلت تلك الجامعة مع غيرها من الجامعات بيروت منارة للعلم والمعرفة استقطبت النخب من مختلف البلاد العربية.

ولئن قضى عصر من ذهب، فقد بدأ بعد ذلك عصر من تعب، كما وصفها الشاعر الفلسطيني محمود درويش "بيروت من تعب ومن ذهب".

الحرب الأهلية

تكفلت الحرب الأهلية اللبنانية وعلى مدى 15 عاما بتغيير وجه بيروت ولبنان بأكمله، وكان من أخطر نتائجها التهجير والفرز الديني والمناطقي، وقدر عدد ضحاياها بـ150 ألف قتيل و300 ألف جريح ومعاق، و17 ألف مفقود.

وهجّر بسبب الحرب، التي وُصفت بأنها "حرب الآخرين على أرض لبنان"، أكثر من مليون نسمة في بلد كان عدد سكانه 3 ملايين، ونزح نحو 600 ألف شخص من 189 بلدة وقرية مسيحية وإسلامية، أي ما يعادل 21.8% من مجموع السكان.

كما قدرت الخسائر المباشرة التي أصابت رأس المال الإنشائي والتجهيزي في القطاعين العام والخاص بنحو 25 مليار دولار أميركي.

وكأن بيروت لم يكفها اقتتال أهلها، فاستغلت إسرائيل انشغال اللبنانيين ببعضهم، وانشغال العرب بمونديال 1982 في إسبانيا، فحاصرت بيروت بعد أن اجتاحت جنوبي لبنان عام 1982 بهدف إخراج منظمة التحرير الفلسطينية، التي اتخذت من لبنان قاعدة انطلاق لها في مقاومتها المسلحة ضد إسرائيل.

واستمر الحصار لعدة أسابيع هاجمت فيها المدينة بحرا وجوا وأرضا، وقتل القصف العشوائي آلاف المدنيين، وقطعت إمدادات الغذاء والمياه والكهرباء، واغتيل أثناءها الرئيس بشير الجميل الذي اتهم بعلاقته بإسرائيل وتسهيل الاجتياح لقواتها.

أنهت إسرائيل حصارها على بيروت وانسحبت من لبنان، لكن اللبنانيين لم ينتهوا بعد من اقتتالهم الداخلي، فاستمرت الحرب الأهلية واشتعلت ما تعرف بحرب المخيمات بين عامي 1985 و1986.

وفي 22 سبتمبر/أيلول 1988 انتهت ولاية الرئيس أمين الجميل -الذي وقع اتفاقية مع إسرائيل تنص على انسحاب القوات الإسرائيلية والقوات السورية من لبنان- ليظهر الانقسام الطائفي في لبنان في أبرز تجلياته بوجود حكومتين: الأولى برئاسة رئيس الوزراء سليم الحص، والثانية برئاسة ميشال عون (قائد الجيش حينها).

على إثر ذلك بدأت مفاوضات سياسية برعاية عربية توّجت بتوقيع الفرقاء اللبنانيين على وثيقة اتفاق الطائف التي أنهت الحرب الأهلية اللبنانية.

 

إعادة إعمار بيروت

تنفست بيروت الصعداء بعد الاتفاق، ومرت بعدها بفترة سلام نسبي في التسعينيات، وكان عراب هذه الفترة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري الذي أخذ على عاتقه إعادة إعمار ما دمرته الحرب الأهلية خاصة في وسط العاصمة بيروت.

وأنشأ الحريري مجلس الإنماء والإعمار تحت شعار "إنماء الحجر والبشر"، وبدأ بورشة ضخمة لإعادة البنية التحتية بهدف استرجاع دور لبنان الاقتصادي في المنطقة.

غير أن الاتفاق بقدر ما أنهى الحرب وكرس نظاما سياسيا جديدا، بقدر ما أبقى على نظام المحاصصة الطائفية بين زعماء الطوائف، مما جعل نار الحرب الأهلية تتوقد تحت رماد ذلك النظام خاصة في ظل استقواء كل طائفة بطرف إقليمي أو دولي.

كان من نتاج ذلك اغتيال الحريري في فبراير/شباط 2005 الذي أشعل ثورة الأرز الشعبية احتجاجا على الوجود والنفوذ السوري في لبنان، وتحت ضغط دولي وشعبي سحبت سوريا قواتها في أبريل/نيسان من ذلك العام، وتغيّر شكل لبنان وتحالفاته السياسية، غير أن شيئا واحدا لم يتغير وهو رائحة الدم التي استمرت تفوح في طرقات بيروت على شكل اغتيالات سياسية طالت وزراء ونوابا وصحفيين.

تدهورت الأوضاع الاقتصادية بعد ذلك ووصلت إلى مرحلة لم تعد معها بيروت تستنشق نسيم البحر والجبل، بل فاحت في طرقاتها رائحة النفايات التي تكدست مع تكلس زعماء الطوائف السياسية في الحكم، وخرجت احتجاجات شعبية باسم "طلعت ريحتكم" في أغسطس/آب 2015، تنديدا بعجز السياسيين عن معالجة الأزمة، وتنديدا بفساد الطبقة السياسية الحاكمة.

استمرت بيروت تعاني ومعها لبنان بأكمله، وخرجت مظاهرات واسعة يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 استمرت لأشهر، بعد إعلان الحكومة فرض مزيد من الضرائب على البنزين والتبغ واستحداث ضريبة على بعض برامج المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت، ومرة أخرى تكون بيريتوس -كما سماها الإغريق- مع موجة جديدة من الخراب وقطع الطرق ورائحة الدم.

ولم تكتفِ تلك الأحداث الجسام بتشويه "زهرة الشرق" الذابلة حتى فاجأها انفجار ضخم أمس الثلاثاء بمرفأها البحري، في حادثة صدمت من هم خارج لبنان فضلا عن أهلها، بعد أن بلغ ضحايا الانفجار أكثر من 100 قتيل و4 آلاف جريح في حصيلة غير نهائية، إضافة إلى 300 ألف شخص باتوا مشردين في العاصمة.

وتسبب الانفجار في أضرار جسيمة بالممتلكات العامة والخاصة في محيط مكان الانفجار الذي تغيرت ملامحه بشكل شبه كامل، كما لحق الدمار المبنى المركزي لمؤسسة الكهرباء، التي تعاني منها لبنان بالأساس.

ولئن أعلن المجلس الأعلى للدفاع في لبنان بيروت "مدينة منكوبة"، داعيا الدول الصديقة للوقوف إلى جانب بلاده وإرسال المساعدات، فإنها ليست النكبة الأولى ولا يبدو أنها الأخيرة في البلد الذي يعاني من أزمة اقتصادية قاسية واستقطاب سياسي حاد، في مشهد تتداخل فيه أطماع إقليمية ودولية.

فهل كُتب على بيروت أن تدفع في كل ما أصابها "ضريبة حسنها" كما عبّر نزار قباني حين وصفها "بست الدنيا"؟

المصدر : الجزيرة