بعد 25 عاما.. هكذا عثر جواد على منقذه في حرب البوسنة

قصة رجلين أنقذ أحدهما الآخر والتقيا بعد 25 عاما بفضل "التواصل الاجتماعي"
جواد وعصمت.. قصة رجلين أنقذ أحدهما الآخر والتقيا بعد 25 عاما (مواقع التواصل الاجتماعي)

قصة أقرب للخيال، حدثت في سراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك، أبطال القصة هما:
جواد بينتول من مواليد 1965 كان عاملا في مجال صيانة أجهزة التدفئة، وعصمت مرشيفيتش من مواليد 1950، كان مندوبا للمشتريات في فندق "هوليداي إن"، الفندق الوحيد الذي كان يعمل في سراييفو، وكان مقرا لمندوبي وكلات الأنباء الدولية، والمراسلين الأجانب.

القصة كما يرويها الاثنان، للجزيرة نت….
يقول جواد:
"يوم 14 يونيو/حزيران 1995، كنت ذاهبا للمركز الطبي الحكومي في وسط سراييفو لأتلقَّى العلاج بسبب إصابة في عيني، وكان معي في السيارة جاران لي، كانا في حاجة للعلاج أيضا، عندما وصلت أمام المركز الطبي، وبمجرد أن أوقفت السيارة، شاهدت وهجا ناريا يأتي في اتجاه السيارة وسمعت ارتطاما هائلا بباب السيارة، فأدركت أنني في مرمى القناصة الصرب، فتحت الباب وهممت بالنزول سريعا، لكن طلقة أخرى كانت أسرع مني، فأصابتني في جانبي الأيمن، وألقاني الانفجار، من شدته، على الأرض في وسط الشارع. حاولت النهوض أو الحركة، لكني لم أكن أشعر بنصفي الأسفل، صِحتُ: ساعدوني! أنا على قيد الحياة، ساعدوني! وقبل أن أغيب عن الوعي، شعرت بيدين تمسكان بي وتجرني بعيدا، تعلقت بهما بكل ما أملك من قوة، ثم غبت بعدها عن الوعي".

عصمت وجواد في نزهة في وسط سراييفو
عصمت وجواد في نزهة في وسط سراييفو (مواقع التواصل الإجتماعي)

يأخذ عصمت طرف الحديث، ليكمل القصة:
"كنت راجعا إلى الفندق الذي أعمل به، ومعي بعض الزملاء، وكنت أقود السيارة بسرعة لأني أعرف خطورة هذه المنطقة، حيث تقع تحت مرمى القناصة الصرب، وكنا نسميه "شارع الموت"، من بعيد رأيت شخصا ملقى في وسط الشارع، مدرجا في الدماء، أبطأت قليلا لأرى هل مات أو ما زال على قيد الحياة!".

ويتابع عصمت "سمعت صوت استغاثته، لم أتردد، أوقفت السيارة بجوار إحدى البنايات، واقتربت بحذر شديد، وأمسكت به وجررته إلى مدخل بناية قريبة، حيث يقف بعض الناس، ومضيت إلى حال سبيلي".

ويشير إلى أنه فعل ذلك رغم الخطورة.. "فعلت ذلك رغم تحذير من كانوا معي في السيارة، حيث يعرف الجميع أن القناص الغادر إذا أصاب أحد المارة لا يقتله فورا بل يتركه ينزف، وينتظر حتى يأتي من يساعده فيطلق النار على الاثنين ليقتلهما معا"، ويبتسم عصمت، قائلا "لكن الله لطف".

تم نقل جواد إلى المستشفى القريب، وأجريت له عدة عمليات جراحية، ويشير التقرير الطبي إلى أن الرصاصة اخترقت الكُلْية اليمنى ثم أصابت العمود الفقري، تم إخراج الطلقة، لكن بقيت عدة شظايا في أنحاء متفرقة من جسمه.

عصمت المنقذ - خاص بالجزيرة نت
عصمت الذي أنقذ جواد من الموت أثناء حرب البوسنة يتحدث عن اللقاء بينهما بعد ربع قرن (الجزيرة)

وعن حالته الصحية، يقول جواد ضاحكا:

أخبرني الأطباء بأن احتمال أن أتمكن من المشي 1%، أما احتمال أن أبقى حيا فهو 10%، والحمد لله على كل حال، تحققت الـ 10% وإن كانت الـ 1% لم تتحقق!

كيف تذكرت عصمت بعد كل تلك السنوات؟
يقول "لم أنسه مطلقا"، ويضيف "بعد أن استقرت حالتي الصحية وبدأت التعود على الحياة الجديدة -من كرسي متحرك، وسيارة مجهزة للمعاقين وغير ذلك- بدأت أفكر كيف أصل إلى هذا الشخص الذي أنقذ حياتي، لأشكر له حسن صنعه".

ويوضح "لم يكن لدي أية وسيلة للوصول إليه، وكنت أحاول أن أتخيل شكله، كلما قابلت شخصا طيبا نبيلا، أقول لنفسي: ربما هذا هو منقذي! كان بداخلي شعور قوي بأنني، يوما ما، سأجده وسنلتقي، ونصبح صديقين، وازداد يقيني بذلك عندما عثرت على الصورة".

وكيف وصلت إلى الصورة؟

جواد ظل يبحث عن منقذه 25 عاما - خاص الجزيرة نت
جواد لم يكل عن البحث عن عصمت الذي أنقذه من الموت حتى وجده بعد 25 عاما (الجزيرة)

يقول جواد:
"في شهر أبريل/نيسان 2016، كنت أتصفح أحد المواقع التي نشرت تقريرا عن ذكرى حصار سراييفو، أرفقت به بعض الصور، وفجأة وقعت عيناي على هذه الصورة، فتجمّدت الدماء في عروقي، صرخت بأعلى صوتي: هذا هو، وجدته، وجدته …! هرعت إلى زوجتي وابنتي، وأنا ما زلت أردد: وجدته، وجدت منقذي، وجدت البطل، سألتقيه، سأشكره!".

يتابع جواد، وقد امتلأت عيناه بالدموع:
"وضعت الصورة على جوالي، وكنت كلما ذهبت إلى مكان، أو قابلت أحدا، أسأل عن هوية المنقذ، لدرجة أنني ذهبت لقريب لي يعمل في الشرطة ورجوته أن يحاول أن يجده. كان الجميع يتعاطفون معي، لكن كانوا يقولون: هذا الأمر صعب جدا، فنحن لا نعرف.. هل ما زال حيا، وهل يعيش في البوسنة أو في الخارج؟ لا نعرف شيئا عنه. لكن ثقتي في أنني سأجده لم تضعف".

يضيف جواد:
"نصحني أحد الأصدقاء بأن أضع الصورة على فيسبوك، ولم أكن أعرف شيئا عن ذلك، طلبت من ابنتي أن تنشئ لي حسابا على فيسبوك، وأن تضع الصورة عليه، وطلبت منها أن يكون ذلك في اليوم نفسه الذي حدثت به الواقعة أي في يوم 14 يونيو/حزيران، وكتبت فوق الصورة: أنا أبحث عن هذا الشاب الجذاب ذي الشعر الأسود الذي أنقذ حياتي!".

ويتابع:
"بعد ساعتين تقريبا، لم أصدق نفسي، جاء التعليق الذي انتظرته 25 عاما"، ومرة أخرى تترقرق عينا جواد بالدموع، ويصمت..

فيكمل عصمت الحديث:
"كنت قد رأيت الصورة نفسها على أحد المواقع، ولم أكن أعرف أن هناك من صوّرنا، لكن الصورة تُظهر وجهي أنا فقط، ولا توضح هوية المصاب، احتفظت بالصورة على جوالي للذكرى، لكني فوجئت في يوم 14 يونيو/حزيران بالصورة نفسها على فيسبوك مع التعليق اللطيف، فقررت أن أرد بالطريقة نفسها".

ويقول "كتبت: تحياتي، أنا هذا الشاب الجذاب ذو الشعر الأسود هههههه، وأود التعرف على هذا الرجل المصاب! رد جواد فورا، تراسلنا واتفقنا على اللقاء".

تابعت الجزيرة نت اللقاء الذي تم يوم الجمعة 19 يونيو/حزيران، وكان مؤثرا جدا، حيث انهمرت الدموع وكلمات الشكر والثناء، وقد حظي باهتمام وحضور وسائل الإعلام البوسنية، وأصبح جواد وعصمت حديث مدينة سراييفو، بل وحلّا ضيفين في أكثر البرامج التليفزيونية شهرة في البوسنة والهرسك.

فاق اهتمام مستخدمي فيسبوك بهذه القصة الإنسانية اهتمامهم بأي قضية أخرى، كما لوحظ أن الإعجاب بها شمل الجميع، مما جعل البعض يؤكد أن جواد وعصمت نجحا في توحيد جميع البوسنيين من بوشناق وصرب وكروات.

هاكان تشليك مدير وكالة الأناضول بسراييفو - من الفيسبوك
هاكان تشليك: في حالة جواد وعصمت الصورة نطقت دون لسان (مواقع التواصل الإجتماعي)

وهذه أمثلة للتعليقات:
تؤكد نصرتة نوكي أن الأعمال الصالحة لا تضيع، من يعمل مثقال ذرة خيرا يره.
ويقول رحمو تشاتيتش (مخاطبا عصمت): تحية لك أيها الأسد!
ويؤكد إلدين جاكا: هذا هو بطلنا!
أما غوران ماركوفينوفيتش فيعلق: مثل هذه القصص، تجعل حياتنا أجمل، ولو للحظات، ويبدي إلفدين راوفيتش إعجابه: جميل أن يُستخدم فيسبوك لمثل ذلك، تهانينا!

بطولة الصورة
وبرغم أن القصة يبدو أنها قد اكتملت، فإن ثمة بطلا من أبطالها ما زال مجهولا، ولولاه ما كانت تلك النهاية السعيدة، البطل هو المصور الذي كان في المكان لحظة وقوع الحدث، وأخذ اللقطة!

وعن ذلك يقول "هاكان تشليك" مدير وكالة الأناضول للأنباء بسراييفو، "في مجال الصحافة فإن الصورة بشكل عام عنصر أساسي في أي خبر، لأن الصورة تنطق دون لسان، أما في الحالة البوسنية، وحسب خبرتي، حيث كنت في البوسنة منذ عام 1993، فإن الصورة بالإضافة إلى دورها كمكون أساسي للتقرير الإخباري، فقد كانت لها أدوار أخرى مهمة للغاية".

ويضيف أن "الصور كانت الوسيلة الوحيدة للتواصل بين العائلات وذويهم تحت الحصار، وهناك جرائم حرب تم الكشف عنها من خلال صورة التي أصبحت الشاهد الرئيسي على الفعل الإجرامي، وكما في حالة جواد وعصمت فإن الصورة كانت العنصر الأساسي الذي جمع الطرفين بعد مرور 25 عاما".

المصدر : الجزيرة