بين الاتفاقيات التاريخية ووثيقة المبادئ.. كيف حولت إثيوبيا سد النهضة من حلم إلى حقيقة؟

منذ أكثر من ست سنوات تتواصل المفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان حول سد النهضة، دون إحراز أي تقدم في القضايا الخلافية.

وسدّ النهضة الذي بدأت أديس أبابا بناءه على النيل الأزرق عام 2011 سيصبح عند إنجازه أكبر سد كهرمائي في أفريقيا، لكن هذا المشروع الحيوي أثار خلافات حادّة بين إثيوبيا وبين كل من السودان ومصر اللتين تتقاسمان معها مياه النيل.

وخلال تلك السنوات تتهم القاهرة أديس أبابا بالتعنت والمراوغة والتقليل من فرص التوصل لاتفاق، في المقابل ترفض إثيوبيا الاتهامات المصرية، وتؤكد أنها تتعامل بمرونة وتعاون في المفاوضات، وأنها ملتزمة بعدم إلحاق الضرر بدول المصب.

وبدأت إثيوبيا عمليا الخطوات التمهيدية لبدء ملء سد النهضة حيث تمت إزالة الغابات واقتلعت الأشجار حول منطقة سد النهضة، التي سيتم فيها ملء البحيرة على مساحة ألف هكتار، وتجري عملية الإزالة بمشاركة ٢٠ ألف عامل وخبير، في موقع السد بإقليم بني شنقول الإثيوبي المحاذي للسودان.

ووفقا لمصادر مشاركة في المفاوضات، تتركز النقاط الخلافية بين الدول الثلاث في عملية تشغيل وملء السد، كما تتمسك القاهرة بحصتها من مياه النيل أي 55.5 مليار متر مكعب بموجب اتفاقية 1959 بين مصر والسودان.

كما تطالب القاهرة أديس أبابا بالاعتراف بالاتفاقيات الثلاث السابقة لتوزيع حصص المياه أعوام 1902 و1929 و1959، الأمر الذي ترفضه الأخيرة، لأنها لم تكن طرفا في تلك الاتفاقيات.

ومع فشل جميع جولات التفاوض خلال السنوات الماضية، تقول إثيوبيا إنها ماضية بخطتها لملء سد النهضة بحلول يوليو/تموز المقبل، معتبرة أنه "لا حاجة لإخطار السودان ومصر بذلك".

مع انتهاء إثيوبيا من بناء سد النهضة واقترابها من بداية ملء بحيرة السد، كيف نجحت أديس أبابا في تجاوز الاتفاقات التاريخية وحولت حلم السد إلى حقيقة؟ وهل ساعدها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تحقيق ذلك؟، الجزيرة نت تغوص في الماضي لتقدم معلومات حول النيل الأزرق والاتفاقيات التاريخية لمياه لنيل، قبل ثورة دول حوض النيل عليها، وانتهاء باعتراف السيسي بسد النهضة في 2015.

النيل الأزرق
يساهم النيل الأزرق القادم من إثيوبيا بالجزء الأكبر من مياه النيل القادمة إلى مصر والسودان، بينما يساهم النيل الأبيض بالجزء المتبقي، ولكن تبقى هذه النسبة متغيرة، إذ تخضع للمواسم المطرية القصوى والدنيا على مدار السنة.

ووفقا لخبراء، يبلغ معدل جريان النيل الأبيض السنوي قبل الوصول إلى الخرطوم 29.6 مليار متر مكعب في السنة، بينما يبلغ معدل جريان النيل الأزرق 49.7 مليار متر مكعب في السنة، وبعد أن يلتقي النهران في الخرطوم يصل نهر النيل الموحد إلى أسوان أقصى جنوب مصر بمعدل جريان يبلغ 84 مليار متر مكعب في السنة أو 90 مليارا إذا أضفنا إليه كمية التبخر.

وأضاف الخبراء للجزيرة أن جريان النيل الأبيض يبقى شبه ثابت خلال الفصول الأربعة، وبذلك تصبح مساهمة النيل الأزرق 90% والنيل الأبيض 5% عند الذروة، في حين تصبح 70% للأول و30% للثاني عند الحالات الدنيا حسب الفاو.

وتجدر الإشارة إلى أن معظم الدول المتشاطئة في الحوض -ما عدا السودان ومصر- تملك حاجتها من المياه وزيادة لكثرة البحيرات العذبة والأنهار ولكثرة هطول الأمطار فيها، بينما يعتمد السودان بنسبة 77% ومصر بنسبة 97% على مياه نهر النيل.

الاتفاقيات التاريخية
نصت جميع الاتفاقات التاريخية لمياه النيل على عدم المساس بحقوق مصر من مياه النيل بداية من اتفاقية روما الموقعة يوم 15 أبريل/نيسان 1891 بين كل من بريطانيا وإيطاليا التي كانت تحتل إرتريا وإثيوبيا، واتفاقية أديس أبابا الموقعة يوم 15 مايو/أيار 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا.

ولم يختلف الأمر في اتفاقية لندن الموقعة يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 1906 بين كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واتفاقية روما عام 1925، حيث كانت كلها تنص على عدم إقامة مشاريع بتلك الدول من شأنها إحداث خلل في مياه النيل أو التقليل من كمية المياه التي تجري في الأراضي المصرية.

ولم يكن السبب في ذلك -وفقا لخبراء رأي تحدثوا للجزيرة نت- الحب الخاص الذي كانت تكنه تلك الدول لمصر، وإنما كان لكبح جماح أطماع الدول الاستعمارية مقابل بعضها البعض حتى لا تندثر مصر وتذهب ضحية تحت وطأة غطرستها الاستعمارية، لا سيما أن النيل كان وما زال عماد وجودها.

وقد جاءت اتفاقية عام 1929 بين مصر وبريطانيا -التي كانت تنوب عن السودان وأوغندا وتنزانيا- متناغمة مع جميع الاتفاقيات السابقة، فقد نصت على ألا تقام بغير اتفاق مسبق مع الحكومة المصرية أية أعمال ري أو كهرومائية أو أية إجراءات أخرى على النيل وفروعه أو على البحيرات التي ينبع منها، سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية والتي من شأنها إنقاص مقدار المياه التي تصل إلى مصر، أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق ضررا بالمصالح المصرية، كما تنص على حق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل.

وقد حددت لأول مرة اتفاقية نوفمبر/تشرين الثاني 1959 بين مصر والسودان كمية المياه بـ55.5 مليار متر مكعب سنويا لمصر و18.5 مليارا للسودان.

تمرد دول الحوض
وبعد سنوات بدأت بوادر رفض دول حوض النيل لبعض البنود في الاتفاقية في مايو/أيار 2009، عندما عقد اجتماع وزاري لدول حوض النيل في كينشاسا بالكونغو الديموقراطية لبحث الإطار القانوني والمؤسسي لمياه النيل، ورفضت مصر التوقيع على الاتفاقية بدون وجود بند صريح يحافظ على حقوقها التاريخية في مياه النيل.

وفي يوليو/تموز من العام نفسه، عقد اجتماع طارئ لوزراء خارجية دول حوض النيل بالإسكندرية، وفي بداية الجلسات صدر تحذيرات باستبعاد دول المصب (مصر والسودان) من توقيع الاتفاقية، ثم أعطيت مهلة 6 أشهر للدولتين.

وقد حذر المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية السفير حسام زكي من "خطورة الاندفاع وراء ادعاءات زائفة لا أساس لها من الصحة تروجها أيد خفية في بعض دول المنبع تدعى زورا معارضة مصر لجهود ومشروعات التنمية بهذه الدول"، مشيرا إلى أن مصر كانت وستظل الداعم الرئيسي والشقيقة الكبرى لدول حوض النيل.

وأكد زكي أن ما تطالب به مصر هو الالتزام بمبدأ التشاور والإخطار المسبق في حالة إقامة أية منشآت مائية بغية ضمان عدم الإضرار بمصالحها القومية وهو ما ينص عليه القانون الدولي.

في 1 مارس/آذارٍ 2011، وقعت بوروندي على اتفاقية تقاسم مياه النيل، وهو ما يعني تجريد مصر من العديد من امتيازاتها في مياه النهر وأبرزها حق الفيتو في منع إقامة أي مشروع على النهر خارج أراضيها.

وأعلن دانيال ميبوما المتحدث الإقليمي باسم مبادرة حوض النيل في عنتيبي أنه بعد توقيع بوروندي بات من الممكن أن تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ، مشددا على أنه وبموجب القانون الدولي الساري، كان لا بد من أن توقع ست من الدول الأطراف على الاتفاقية.

تنازل السيسي
ويرى خبراء أن الموقف المصري ظل قويا رغم اتفاق دول الحوض، حتى جاءت نقطة التحول بتوقيع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عام 2015 على اتفاقية المبادئ مع زعيمي إثيوبيا والسودان، والتي اعترفت فيها مصر رسميا لأول مرة بحق إثيوبيا في بناء سد النهضة، دون أن تلزم الاتفاقية إثيوبيا بالحفاظ على حصة مصر من مياه النيل.

قبلة الحياة التي منحها السيسي لسد النهضة لم تكن خفية أو مفاجئة للنظام المصري، حيث قالت مصادر حكومية إن العديد من الجهات الرسمية رفعت تقارير للسيسي قبل توقيع الاتفاقية مفادها أن التوقيع عليها سيضعف موقف مصر الذي كان يطلب من الجهات الدولية آنذاك عدم تمويل السد إلا بعد التوصل إلى اتفاق بشأن كيفية ملئه، وكذلك بعد التيقن من تفاصيل فنية تتعلق بأمن جسم السد وطبيعة التداعيات البيئية الناتجة عنه، وتأثيره على مجرى النهر ونوعية المياه فيه.

التصريحات التي نقلها موقع "مدى مصر" في 26 سبتمبر/أيلول 2019 قال إنها لمصدر حكومي سابق كان قد شارك في المشاورات التي سبقت اتخاذ مصر قرار توقيع اتفاقية المبادئ.

وأكد المصدر الحكومي أيضا أن مستشارة الرئيس لشؤون اﻷمن القومي فايزة أبو النجا ومختصين سابقين في المخابرات وفي وزارات الخارجية والدفاع والري أجمعوا على أن التوقيع على الاتفاقية يمثل إقرارا مصريا بالموافقة على قيام إثيوبيا ببناء السد دون أي ضمانات أو التزامات.

غير أن السيسي قرر أنه سيوقع الاتفاق، وأخبر معاونيه أنه ستكون لديه القدرة على إحداث تغيير كبير في الموقف الإثيوبي من "خلال استخدام تأثيره الشخصي على المسؤولين الإثيوبيين، بل وعلى الرأي العام الإثيوبي" وفقا للمصدر ذاته.

ونقل الموقع عن مصدر حكومي آخر أن مطالبة الدول والجهات المانحة بعدم تقديم الدعم المالي والفني لإثيوبيا كانت الخط الرئيسي الذي عملت عليه الدبلوماسية المصرية منذ بداية تحرك إثيوبيا لبناء السد في السنوات الأخيرة لحكم مبارك، وذلك اعتمادا على ما يقره القانون الدولي من أن الدول المتشاطئة على مياه الأنهار لا يمكنها أن تقوم بمشروعات مائية تؤثر على مجرى المياه وحصص الدول دون التوافق المسبق.

غير أن المطالبة بعدم دعم إثيوبيا في بناء السد انتفت منطقيتها بالتوقيع على اتفاقية المبادئ التي مثلت اعترافا مصريا رسميا بحق إثيوبيا في بناء السد، بغض النظر عن عدم احتواء الوثيقة على نصوص واضحة تضمن عدم المضي قدما في البناء قبل التوافق، وهو ما سبق أن حذر معاونو السيسي من حدوثه.