في أجواء غضب وبلا مغسّلين أو لحّادين.. رحلة موتى كورونا الصعبة للدفن في مصر

يخرج ميت كورونا من المستشفى بإجراءات مشددة ورغم ذلك يخشى اللحادون دفنهم. (تصوير خاص لمتوف بمستشفى بالقاهرة ـ مصر ـ يونيو 2020 ).
المتوفون جراء الإصابة بكورونا يخرجون من المستشفى بإجراءات مشددة ورغم ذلك يخشى اللحادون دفنهم (الجزيرة)

عند فوهة القبر المفتوحة لابتلاع ضيف جديد وقف رضا على رأس والده المسجى في كفنه يستجدي محمد الفحار -وهو لحّاد القبور في قرية الجوطة الشرقية بمحافظة أسيوط- ليدفن الوالد، لكن اللحاد يتهرب من الاستجابة خشية أن تنتقل له العدوى بفيروس كورونا الذي توفي بسببه والد رضا.

لحظات قاتلة من الصمت الثقيل مرت، قطعها عرض رضا للحاد بمضاعفة أجره أضعافا مضاعفة، وبالتوسل إليه بكل صلات العِشرة والمودة لإكرام أبيه، والرجل يأبى ويقول إن مهمته انتهت عند فتح القبر للأسرة التي سبق أن دفن معظم متوفيها على مدى سنوات طويلة، معتذرا بأن لديه أبناء يخشى أن يصيروا أيتاما بعده.

كانت الساعة قد تخطت الثامنة مساء حينما خلع رضا حذاءه رضوخا لتعليمات اللحاد لكي يشرع في دفن أبيه بنفسه، ودخل المقبرة بظهره سائرا للوراء حاملا الجثمان بين ذراعيه بعد تسلمه من ابن عمه، وهو يحذر أن يطأ جثامين الأقربين الراقدين بالداخل.

ومشى رضا خطوتين منحنيا ثم جثا على ركبتيه، وأراح الجثمان على جنبه الأيمن باتجاه القبلة بعد تحرير أبيه من الغلاف البلاستيكي الذي جرى تغليفه فيه، منعا لتسرب سوائل الجثمان منه، بعدها فك أربطة الكفن وخرج.

ويبرر اللحاد محمد الفحار إحجامه عن القيام بمهامه بخوفه من الموت بعدما سمع بوفاة أكثر من لحاد نتيجة عدوى كورونا، وقال للجزيرة إنه يصر على مطالعة شهادة وفاة المتوفى، لتبيان سبب الوفاة قبل الشروع في دفنه.

ويشير اللحاد إلى أنه ورث هذه المهنة عن والده بعدما أنهى تعليمه المتوسط، ويمارسها كنوع من "احتساب الأجر من الله تعالى قبل أن تكون للأجر المادي"، ومع تفشي فيروس كورونا بات أقصى ما يقدمه من خدمات لذوي المتوفى بكورونا هو فتح المقبرة وتجهيزها لهم وإرشاد أحدهم لتولي عملية الدفن.

تظل فوهات القبور مفتوحة طويلا بانتظار ابتلاع موتى كورونا. (تصوير خاص لفتحة قبر ـ مصر ـ أرشيف).
كثير من المصريين يضطرون لدفن أقاربهم المتوفين بكورونا بأنفسهم (الجزيرة)

في مواجهة الأهالي
وربما يكون رضا أحسن حظا من آخرين عجزوا عن دخول قراهم بجثث أقربائهم المتوفين بفيروس كورونا، نتيجة تصدي الأهالي لعربات الإسعاف الحاملة لجثة ميت بكورونا، وقيامهم برجمها لكي لا يجري دفن الجثة في مقابر المنطقة خشية انتشار العدوى.

ولا تزال حاضرة في الأذهان واقعة منع الأهالي بإحدى قرى الدلتا دفن طبيبة متوفاة بالفيروس في مدافن القرية، وتعددت الوقائع المشابهة خلال الشهور الماضية رغم فتاوى الأزهر بحرمة هذا الفعل، وتأكيدات وزارة الصحة بعدم انتقال الفيروس من المتوفين إلى الأحياء.

ويضطر ذوو المتوفين إلى طلب الشرطة لتمكينهم من دخول المقابر، ويقول ضابط رافق إحدى الحالات إن المأساة الكبرى برزت حينما ظل الجثمان مسجى عند فوهة القبر المفتوح لأن اللحاد يخشى دفنه، ويرفض ذوو المتوفى القيام بالمهمة، والجثة بانتظار من يكرمها ويسترها في التراب، ومرت أكثر من ساعة والجثة عالقة بين الدنيا والآخرة، حتى تطوع أحدهم وقام بالمهمة وهو يحوقل ويردد قوله تعالى "يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه".

وبرزت على مواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة نشر أهل المتوفين شهادات وفاة ذويهم، في محاولة لطمأنة أهالي القرى القريبة من المقابر بطبيعية موت أقربائهم، تجنبا لمنعهم بالقوة من دفنهم بشكل طبيعي.

ومثلما أقدم رضا على دفن والده بيديه في قبره وجدت نعمات نفسها مضطرة لتغسيل والدتها في المستشفى، إذ ظلت الأسرة لساعات طويلة تحاول دون جدوى استقدام من تغسل الأم المتوفاة.

وبعد فشل عشرات المحاولات نصح مقربون من الأسرة بطلب العون من فرق متطوعين لكن أقربهم كان على بعد ساعات، وغير مؤكد وصوله لأن هنالك طابورا طويلا من الجثث المنتظرة للغسل.

ارتدت نعمات الزي المخصص لممرضات المستشفى، وهو عبارة عن قميص من النايلون وقفاز وغطاء رأس، ثم اتصلت بالمغسّلة المرعوبة من الحضور بعد معرفتها بسبب الوفاة- لتشرح لها كيفية الغسل بالطريقة الشرعية.

وقالت المغسّلة -التي رفضت ذكر اسمها للجزيرة نت- إنها "تتقي الله وتقوم بعملها ابتغاء ثوابه تعالى"، لكنها أحجمت عن تغسيل موتى كورونا بعدما أصيبت بالعدوى قبل أسابيع بسبب قيامها بتغسيل متوفاة بالفيروس.

وعانت المغسّلة أشد المعاناة قبل أن تتعافى، مؤكدة أن ألم هذا المرض أشد من أي معاناة يمكن أن يجربها إنسان، ونجت منه بـ"معجزة" بعد أن شعرت أنها على شفا الموت، لذلك فهي لن تغامر بحياتها مرة أخرى، فلديها "أيتام تربيهم".

فرق المتطوعين لتغسيل متوفيي كورونا تلهث لتغسيل الجثث وسط إحجام الكثيرين. (تصوير خاص لمتطوعات للتغسيل بإحدى مستشفيات القاهرة ـ مصر ـ يونيو 2020 ).
فرق المتطوعين لتغسيل المتوفين بكورونا تلهث لتغسيل الجثث وسط إحجام الكثيرين (الجزيرة)

فرق إنقاذ الموتى
ورغم هذه المعاناة قإن جوانب مشرقة تبرز، إذ تقدم متطوعون ومتطوعات لتغسيل ودفن موتى كورونا، ومن هؤلاء منى الرفاعي، وهي سيدة قاهرية مسنة تطوعت لدفن وتغسيل "ضحايا كورونا" مجانا، وحينما يهاتفها ذوو المتوفية ترتدي زيا كاملا للوقاية، وتحمل في حقيبتها أداوت التعقيم، ثم تتوجه إلى مكان الحالة.

وفي محافظة الأقصر جنوبا حيث توجد الكثير من حالات الإصابة تشكل فريق من المتطوعين لتغسيل ودفن المتوفين بكورونا، وجميع المتطوعين تلقوا تدريبا على الوقاية على يد طواقم طبية من مديرية الصحة بالمحافظة.

وشدد عضو مجلس نقابة الأطباء محمد عبد الحميد على ضرورة خروج الجثمان من المستشفى بعد إجراءات صحية محددة تتضمن لفه بغلاف بلاستيكي فوق 3 أكفان من القطن.

وأوضح عبد الحميد في تصريحات صحفية أن الغلاف البلاستيكي مهمته منع تسرب أي سوائل من فتحات الجثمان لمنع عدوى الأحياء من الأموات.

بدور،ه قال المتحدث الإعلامي لوزارة الصحة والسكان خالد مجاهد إن الوزارة ينتهي دورها بمجرد تسليم الجثمان إلى الأهل.

وحمّل المتحدث باسم الوزارة في تصريحات صحفية الأهالي المسؤولية عن هذه الأزمة، مؤكدا أن نقل الجثامين بطرق مخالفة للإجراءات كما ظهر في بعض المقاطع المصورة هي مسئولية ذوي المتوفى.

المصدر : الجزيرة