السودان وإسرائيل.. أبرز محطات التطبيع

علم السودان وإسرائيل

مزدلفة محمد عثمان-الخرطوم

"الرجاء إبلاغ عمر أننا مستعدون لإجراء مباحثات فنية مفصلة معه حول خطة التجارة والمال التي تم مناقشتها. محافظ بنك إسرائيل (ديفيد هورفيتز) و(مستشار رئيس وزراء إسرائيل للشؤون العربية) جوش بالمون سيكونان موجودين في إسطنبول صباح 13 سبتمبر/أيلول. نرجو الاتصال بالقنصل الإسرائيلي عند الوصول لترتيب اللقاء. أخبرونا عند سفر عمر لإسطنبول".

كان هذا نص برقية عاجلة أرسلتها وزارة الخارجية الإسرائيلية بتاريخ 8 سبتمبر/أيلول 1955 لمكتبها في العاصمة القبرصية نيقوسيا، لإبلاغها للسياسي السوداني محمد أحمد عمر -الذي كان موجودا هناك- للقاءات مع مسؤولين إسرائيليين.

ويظهر محمد أحمد عمر في الأرشيف الإسرائيلي بصورة حصرية على أنه حلقة وصل بينها وبين السودان قبل استقلاله، ويعتبر شخصية غامضة لم يعرف عنه الكثير، لكن المؤكد أنه كان أول سوداني يبادر لإقامة علاقة مع إسرائيل.

ويعرف عمر في السودان بأنه الشخص الذي رافق رئيس حزب الأمة الصديق المهدي في زيارته إلى لندن عام 1954 التي جرى فيها لقاءان سريان مع الإسرائيليين -دون ترتيب سابق- لبحث أي دعم يمكن أن تقدمه إسرائيل لدعم استقلال السودان ومجابهة النفوذ المصري.

وكان دافع هذه اللقاءات مع الإسرائيليين الإحباط الذي أصاب حزب الأمة لاعتقادهم أن قضية الاستقلال باتت في مهب الريح نتيجة الآلة المصرية الضخمة التي أدت لانتصار التيار الذي يؤيد الوحدة مع مصر، والممثل في الحزب الوطني الاتحادي بزعامة إسماعيل الأزهري في انتخابات 1953، مقابل ما اعتبروه خذلانا وتقاعسا بريطانيا عن دعم التيار الاستقلالي.

وقال السكرتير الأول في السفارة الإسرائيلية موردخاي جازيت وآخرين -حسب الأرشيف الإسرائيلي- إن عمر في اللقاء الأول الذي جرى في غرفة الصديق المهدي في فندق سافوي في لندن، كان هو المبادر بالحديث وطرح النقاط، وأن المهدي كان يؤمن على كلامه مما أعطاهم الانطباع أن عمر هو المتحدث باسم الحزب.

وطرح عمر في اللقاء مطلب حزب الأمة من إسرائيل المتمثل في دعم قضية استقلال السودان على الساحة الدولية، خاصة في الولايات المتحدة والغرب وفي الأمم المتحدة أيضا. وحذر عمر من أن أي تقاعس عن دعمهم سيسمح لمصر بابتلاع السودان.

لكن وثائق الأرشيف الإسرائيلي أشارت إلى أن الاتصالات بين حزب الأمة -ممثلة تحديدا في شخص محمد أحمد عمر- وإسرائيل، استمرت إلى ما بعد الاستقلال الذي من أجله طرق باب إسرائيل.

ترحيل الفلاشا
بدروه، يعتبر الرئيس السوداني السابق جعفر نميري من المطبعين مع إسرائيل حين وافق على ترحيل آلاف اليهود الفلاشا عبر السودان ومنها لإثيوبيا وصولا إلى إسرائيل، في عملية سهلت استيطان نحو 25 ألف يهودي في فلسطين.

ومنذ ذلك الوقت، لم يعرف عن أي مسؤول سوداني رفيع المستوى دخل في لقاءات مباشرة مع إسرائيل على أي مستوى من المستويات، باستثناء تسريبات إعلامية من وقت لآخر تتحدث عن لقاءات غير معلنة تمت في عواصم خارجية، كان أغلبها يقابل بالنفي.

ولعل ذلك ما جعل من اجتماع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان في أوغندا أمس الاثنين، علامة فارقة في التاريخ السوداني قديمه وحديثه.

‪البرهان ونتنياهو‬ (مواقع تواصل)
‪البرهان ونتنياهو‬ (مواقع تواصل)

فالخطوة التي اتخذها البرهان، وسط ذهول السودانيين، مثلت تلخيصا واقعيا للهمس الذي كان يدور بين الفينة والأخرى عن علاقات مطلوبة مع تل أبيب يقابلها رفض مغلظ في التصريحات العلنية لنظام البشير.

وأثير موضوع التقارب مع إسرائيل في مؤتمر الحوار الوطني، الذي بدأت جلساته في 2014 واستمر نحو عامين بعد اقتراح حزب "المستقلين" تطبيع العلاقة مع إسرائيل، في سياق تحسين العلاقات الخارجية وباعتباره مدخلا جيدا إلى الإدارة الأميركية.

ولم يمض وقت طويل على هذا الجدل حتى فوجئ الجميع بوزير الخارجية السابق إبراهيم غندور وهو يقول إن بلاده لا تمانع دارسة إمكانية التطبيع مع إسرائيل.

وقبلها كانت تسريبات "ويكيليكس" تتحدث أن وزير الخارجية السابق ومستشار الرئيس عمر حسن البشير وقتها مصطفى عثمان إسماعيل، قال إن حكومة بلاده تقترح على الولايات المتحدة أوجها للتعاون تتضمن تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

ونقل الموقع أن إسماعيل ذكر في لقائه مع مسؤول الشؤون الأفريقية في الخارجية الأميركية ألبرتو فرنانديز، أثناء شغله لمنصب القائم بالأعمال الأميركي في الخرطوم، أنه "إذا مضت الأمور بصورة جيدة مع الولايات المتحدة، فقد تساعدوننا في تسهيل الأمور مع إسرائيل، الحليف الأقرب لكم في المنطقة".

أصوات تؤيد التطبيع
وباستثناء التسريبات السرية، فإن أصوات في حكومة البشير كانت تعلو بين الفينة والأخرى وهي تؤيد التطبيع، بينهم والي النيل الأبيض السابق عبد الحميد موسى كاشا، الذي قال في البرلمان "ما دمنا قبلنا بأميركا فلنقبل بإسرائيل".

وفي العام 2012 صدع كرم الله عباس الشيخ، والي ولاية القضارف الأسبق، بانتمائه لمدرسة داخل المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم وقتها)، تطالب بالتطبيع مع إسرائيل.

وقال إنه لن يتردد في تطبيع علاقات السودان مع إسرائيل حال تسلمه حقيبة وزارة الخارجية، مشيرا إلى علاقات بعض الدول العربية مع إسرائيل بينها مصر والأردن.

وكتبت صحيفة "هآرتس" أنه بالتوازي مع الابتعاد عن إيران والاقتراب من السعودية، بدأ يتصاعد في السودان في الشهور الأولى من العام 2016 الحوار بشأن إمكانية تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

وأوضحت أن عدد من قادة الأحزاب أيد إمكانية تغيير التوجه لإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، كجزء من محاولة التقارب من الولايات المتحدة، تمهيدا لإزالة العقوبات الاقتصادية.

مبعوث سري
وفي نوفمبر/تشرين الأول من 2018، كشف كبير مراسلي الشؤون الدبلوماسية في القناة العاشرة الإسرائيلية باراك رافيد عن لقاء مبعوث إسرائيلي سرا بمسؤولين سودانيين رفيعي المستوى في تركيا قبل عام.

وكتب باراك تغريدة على تويتر قال فيها إن اللقاء جرى في إسطنبول بين مبعوث الخارجية الإسرائيلية بروس كشدان ووفد سوداني برئاسة أحد مساعدي مدير جهاز الأمن السابق محمد عطا بوساطة قادها رجل أعمال تركي مقرب من البشير، حيث نوقش تطبيع العلاقات والمساعدات في مجال الاقتصاد والزراعة والصحة. 

وسارع حينها المتحدث باسم الحكومة السودانية وزير الإعلام بشارة أرور إلى تأكيد عدم صحة الأنباء المتواترة عن تطبيع محتمل للعلاقات السودانية الإسرائيلية. وقال إن "العداء بين السودان ودولة إسرائيل فكريا ودينيا مستمر إلى أن تقوم الساعة".

التسريب الأحدث
وفي مارس/آذار 2019 أورد موقع "ميدل إيست آي" البريطاني أن اجتماعا سريا عقد بين مدير جهاز المخابرات صلاح عبد الله قوش ومدير جهاز المخابرات الإسرائيلي يوسي كوهين في ميونيخ بألمانيا وفقا لمصدر كبير في الجيش السوداني.

وقال المصدر إن اللقاء يأتي بتدبير من "حلفاء إسرائيل الخليجيين ضمن مساعي تصعيد قوش إلى سدة الرئاسة، بعد إسقاط الرئيس السوداني عمر البشير، من السلطة". وهو ما سارع إلى تكذيبه جهاز المخابرات السوداني.

الآن ينتظر السودانيون التفسير الكامل من الرئيس عبد الفتاح البرهان لاجتماعه بنتنياهو، كما عليه أن يعطي تبريرات مقنعة لتيارات دينية متشددة تعارض بقوة فكرة التقارب مع إسرائيل.

المصدر : الجزيرة