من يسكت البندقية في جنوب السودان.. الصلوات أم العقوبات؟

South Sudan's First Vice President Riek Machar stands with his wife Angelina Teny as he takes the oath of office in front of Sudan's President Salva Kiir and Chief of Justice Chan Reech Madut, at the State House in Juba, South Sudan, February 22, 2020. REUTERS/Jok Solomun
رياك مشار يؤدي اليمين الدستورية للمرة الثالثة نائبا أول لسلفا كير (رويترز)

مجدي مصطفى

 
بعد حوالي تسعة أشهر من ركوع البابا فرانسيس بابا الفاتيكان أمام رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت وخصمه رياك مشار وتقبيل قدميهما، راجيا تجنيب بلديهما حربا أهلية، أعلن الخصمان في جوبا طي مرحلة الحرب، وإطلاق مرحلة انتقالية، يتم خلالها وضع الدستور الدائم، ويعقبها إجراء انتخابات عامة.
 
خص بابا الفاتيكان أطراف النزاع في جنوب السودان بطقس كنسي نقله إلى عالم السياسة في مشهد تقبيل القدمين، الذي جاء ضمن لقاء روحي خاص نظمته أمانة دولة الفاتيكان، ورئيس أساقفة كانتربري جاستين ويلبي -الزعيم الروحي للكنيسة الأنجليكية- من أجل دعم المصالحة في هذا البلد.
 
أما الولايات المتحدة راعية انفصال جنوب السودان وأكبر الدول المانحة له فاضطرت إلى اعتماد سياسة العقوبات بعد أن رأت تلك الدولة الوليدة تتصدر قائمة الدول الفاشلة، وتغرق في حرب أهلية إثر صراع بين سلفا كير الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا، وغريمه رياك مشار من قبائل النوير، وازداد سخطها بعد تأجيل الغريمين العام الماضي مهلتين أخريين لاتخاذ الخطوة الحاسمة لتشكيل الحكومة الائتلافية.
 
وفي 30 مايو/أيار الماضي اعتمد مجلس الأمن الدولي مشروع قرار أميركي لتجديد نظام العقوبات على جنوب السودان، أعقبه دعوة واشنطن إلى ضرورة وقف تدفق الأسلحة إلى البلاد والحد من إذكاء الصراع وإرهاب المدنيين واتخاذ إجراءات ضد المسؤولين عن تقويض السلام.
 
حرب وفساد
ست سنوات متواصلة من الحرب في عمر أحدث دولة في العالم اندلعت بعد عامين فقط على انفصالها، راح ضحيتها أربعمئة ألف قتيل وأدت إلى فرار أكثر من أربعة ملايين شخص من إجمالي عدد السكان البالغ 12 مليون نسمة، بينهم نحو 2.2 مليون نسمة نزحوا إلى الدول المجاورة أو طلبوا اللجوء فيها حسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، خصوصا بعد أن أصبح الاغتصاب أحد أسلحة تلك الحرب.
 
وإلى جانب الحرب والدماء والتهجير، استشرى الفساد في الدولة الوليدة وبلغ ذروته وتشعب من خلال روابط مسؤولين سياسيين وعسكريين في البلاد بشركات متعددة الجنسيات، ورجال أعمال بينهم أميركيون وبريطانيون وحكومات أجنبية حيث بات الجميع منتفعين من حالة الحرب واستمرارها، إذ وجهت أموال النفط لتجارة السلاح، وأفرزت جرائم حرب تنتظر الكشف عن المتورطين فيها وتقديمهم لمحاكمات دولية.  
‪ريبكا قرنق أرملة جون قرنق تؤدي اليمين الدستورية‬ (رويترز)
‪ريبكا قرنق أرملة جون قرنق تؤدي اليمين الدستورية‬ (رويترز)
غرائبيات
لم تخلُ مراسم أداء مشار اليمين الدستورية أمام سلفا كير في جوبا أمس السبت من غرائبيات، حيث أدى اليمين نواب آخرون في هيئة الرئاسة التي تضم ستة أشخاص، هم الرئيس ونائبه الأول وأربعة نواب آخرين منهم ربيكا قرنق، أرملة الراحل جون قرنق، زعيم ومؤسس الحركة الشعبية التي تحكم جنوب السودان، لكن منصب النائب الرابع للرئيس ظل شاغرا -وهو من نصيب تحالف المعارضة "سوا"- نتيجة خلافات داخل التحالف.
 
هذا الأمر كان محل سخرية سلفا كير الذي قال "لا أعرف دولة في العالم فيها خمسة نواب للرئيس ولكن هذا قدرنا"، غير أنه كان حريصا على إبداء روح التسامح التي أبداها أيضا غريمه العتيد رياك مشار عقب أدائه اليمين، مدشنا مسعاه لحكم جنوب السودان معه للمرة الثالثة.
 
أعلن سلفا كير العفو عن مشار وقادة المعارضة الذين لم يوقعوا اتفاق السلام، داعيا مشار ليعفو عنه أيضا، كما جدد اعتذاره لشعب بلاده ودعاه للتعافي والتصالح فيما بينهم، ودعا كير النازحين واللاجئين إلى العودة إلى ديارهم ودعم عملية السلام.
 
واستبق كير المشهد الاحتفالي بحل الحكومة الجمعة تمهيدا لتشكيل الحكومة الجديدة التي ستضم 35 وزيرا، استجابة لأحد المطالب الرئيسية للمعارضة.
 
وقرر كير العودة إلى نظام فدرالي يضم عشر ولايات بدلا من 32، بالإضافة إلى إنشاء ثلاث "مناطق إدارية" هي روينق وبيبور وأبيي. 

 

‪المدنيون يدفعون ضريبة الحرب الأهلية جوعا وتشردا‬ (رويترز)
‪المدنيون يدفعون ضريبة الحرب الأهلية جوعا وتشردا‬ (رويترز)

مخاوف
لا تخفي الأجواء الاحتفالية المخاوف والحذر من المستقبل خصوصا أن العديد من مساعي السلام السابقة كان مصيرها الفشل، بما فيها صفقة عودة مشار كنائب للرئيس في عام 2016، فلم تكد تمر أشهر قليلة عليها حتى فر مشار من البلاد سيرا على الأقدام بعد أشهر، وسط إطلاق نار جديد.

ولعل هذا يفسر غياب رؤساء الدول عن حفل أداء اليمين باستثناء رئيس مجلس السيادة في السودان الجنرال عبد الفتاح البرهان، وبدا الحذر أيضا في عبارات التهنئة التي تضمنتها رسالة السفارة الأميركية بهذه المناسبة وجاء فيها، "لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به".

أما التحدي الأكبر فيتعلق بدمج عشرات الآلاف من القوات المتناحرة في جيش واحد وهي عملية وصفتها الأمم المتحدة وغيرها بأنها متخلفة عن جدولها الزمني، أما فيما يتعلق بالحكومة الجديدة فيرى المراقبون ضرورة أن تكون شاملة، في بلد يدور فيه القتال على أسس عرقية، ولم يوقع الجميع على اتفاق السلام الذي أعلن عنه عام 2018.

 
وتأمل المنظمات الإغاثية التي قتل أكثر من مئة من العاملين فيها منذ بدء الحرب الأهلية، أن تقوم الحكومة الجديدة بإيصال الغذاء وغيره من أشكال الدعم  حيث لا يزال نصف سكان جنوب السودان يعانون من الجوع.

وحسب تقرير أممي صدر الخميس الماضي هناك حوالي أربعين ألف شخص يعيشون في ظروف مجاعة، وسط تصاعد المخاوف من انتشار واسع  للجراد في شرق أفريقيا هذه الأيام.
 
كما حذر تقرير لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنوب السودان من "استمرار الانتهاكات الخطيرة"، وقال إن المدنيين "يتعرضون للجوع عن عمد، ويتم إسكاتهم بشكل منهجي، وكذلك اعتقالهم بشكل تعسفي، وحرمانهم من الوصول إلى العدالة"، مشيرا إلى انتشار "العنف المميت واستخدام الجنود الأطفال وكذلك العنف الجنسي، ما يعرض السلام الهش للخطر".
 
والواضح أن سنوات الصراع عمقت انعدام الثقة بين الفرقاء في جنوب السودان، والرهان على نجاحهم في بناء الثقة وإسكات صوت السلاح خلال المرحلة الانتقالية، وما يليها وصولا إلى إجراء انتخابات عامة لأن البديل الذي يطل برأسه دائما هو عودة الحرب الأهلية التي تتجاهل الصلوات أو الدعوات أو حتى العقوبات.

المصدر : الجزيرة