نهاية الحرب بين أرمينيا وأذربيجان.. الرابحون والخاسرون

صور للمسيرات الاحتفالية في أذربيجان وصور من كاراباخ
مسيرات احتفالية في أذربيجان بعد إعلان وقف إطلاق النار في قره باغ، والذي اعتبره الأذريون انتصارا في المعركة (الأناضول)

ظاهر الأمر اتفاق ثلاثي: أرميني أذري روسي، ينهي قرابة 40 يوما من حرب دموية غير مسبوقة في المنطقة منذ 30 عاما، لكن الحقيقة التي يدركها الجميع أن الاتفاق جاء في الواقع أقرب ما يكون إلى وثيقة استسلام وقّعتها أرمينيا، بعدما استنفدت كل الخيارات الأخرى.

لذلك لم يُرد رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان أن توثق عدسات الكاميرا هذه اللحظة "المذلة" في تاريخ أرمينيا. وفي الجانب الآخر، لم يتردد خصمه الرئيس الأذري إلهام علييف في صب الملح على الجراح الأرمينية، بحديثه عن استسلام كامل وطرد "الكلاب" من الأراضي الأذرية.

اتفاق بطعم الاستسلام

ينص هذا الاتفاق على أن يحتفظ كل طرف بما استولى عليه من أرض في المعارك، بينما تكون أرمينيا ملزمة بإعادة السيادة على منطقة أغدام بحلول يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ومنطقة كيلباجار بحلول 15 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ومنطقة لاتشين بحلول 1 ديسمبر/كانون الأول القادم إلى أذربيجان.

كما ينص الاتفاق على نشر قوات حفظ سلام روسية (لا يمكن المراهنة على صبرها) على طول خط وقف إطلاق النار في قره باغ، وكذلك على طول ممر لاتشين الذي يصل قره باغ بأرمينيا. وبموجب الاتفاق ستُؤمن أرمينيا فتح حركة النقل بين غرب أذربيجان وإقليم ناخيتشيفان الأذري الذي يتمتع بحكم ذاتي ويعيش عزلة كاملة بهدف تأمين حركة الناس والسلع في الاتجاهين.

صيغ الاتفاق -كما هي العادة في الاتفاقات الدولية- بلغة دبلوماسية غير "جارحة" للطرف المهزوم، لكن قراءة متأنية للاتفاق وسياقاته تظهر أن أذربيجان حققت أكثر مما كانت تنتظر، بينما خسرت أرمينيا بالحرب ما كان بإمكانها تجنبه لو قبلت بالتفاوض قبل اندلاع المواجهات.

خريطة لإقليم ناغورنو قره باغ - الموسوعة
خريطة توضح موقع إقليم قره باغ الذي دارت عليه المعركة بين أذربيجان وأرمينيا (الجزيرة)

ميزان الربح والخسارة

ثأرت أذربيجان لهزيمتها عام 1994، واستعادت ما يعادل خُمس أراضيها التي احتلت في هذه الحرب، وتمكنت من السيطرة على ما يقرب من 60% من إقليم قره باغ، وسيطرت على مدينة شوشه الإستراتيجية التي تطل على العاصمة ستيباناكيرت، وتبعد عنها أقل من 15 كيلومترا، وضمنت ربط أراضيها بإقليم ناخيتشيفان الذي كان معزولا بشكل كامل عن أراضيها رغم أنه يتبع لها، وكان الوصول إليه يتطلب المرور عبر إيران أو أرمينيا، كما ضمنت عن طريقه اتصالا جغرافيا مباشرا بتركيا من خلال شريط حدودي يمتد على طول 23 كيلومترا.

أما أرمينيا فقد خرجت من هذا الاتفاق وقد خسرت ما احتلته عام 1994 من الأراضي الأذرية، و60% من إقليم قره باغ، والجزء المتبقي سيصبح على الأرجح أرضا خلاء، لأنه على الرغم من أن الاتفاق ينص على عودة اللاجئين والنازحين، فلا أحد يتصور أن شروط هذه العودة ستتوفر قريبا، ناهيك عن أن أذربيجان سيكون من حقها أن تطالب أيضا بعودة لاجئيها الذي هاجروا أو هجروا عام 1994.

اتفاق تحت ضغط المعارك والأصدقاء

ورغم مرارة هذا الاتفاق بالنسبة للأرمينيين، فلم يكن أمامهم من خيار غيره، فقد وقعوه تحت ضغط مزدوج: ضغط المعارك، وضغط "الأصدقاء" الذين تبين عندما جد الجد أنهم باعوا الوهم لأرمينيا، بعدما وعدوها بدعم لم يأت أبدا.

في الميدان وصلت القوات الأذرية قبيل الاتفاق إلى "شوشه" (وفق التسمية الأذرية) أو "شوشي" وفق التسمية الأرمينية، ومن يسيطر على هذه المدينة يمكنه السيطرة على الإقليم بسبب موقعها الجغرافي والإستراتيجي، فهي تطل على كل الإقليم وخاصة على العاصمة ستيباناكيرت التي تبعد فقط نحو 15 كيلومترا، يعني أن حسم المعركة مسألة وقت فقط، بل مسألة وقت قصير.

ولذلك مع اقتراب الجيش الأذري من شوشه قبل 10 أيام، وجهت أرمينيا نداء استغاثة لروسيا تطالب فيها بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك واتفاقية الصداقة، ووجهت نداء مماثلا بشكل غير مباشر لدول صديقة، لكن هذه النداءات تردد صداها في الفراغ. فالجواب الروسي جاء مخيبا، بعدما اعتبرت موسكو أنها معنية بالتدخل وفق اتفاقية الدفاع المشترك التي تربطها بيريفان، إذا تعرضت أرمينيا -وليس إقليم قره باغ- لهجوم، وهو الجواب الذي بدا أشبه برسالة روسية لأذربيجان وتركيا، أن امضيا فيما أنتما فيه فلا اعتراض لدينا.

أما فرنسا التي ترتبط بعلاقات تاريخية مع أرمينيا، يعززها العداء المشترك لتركيا، وقوة اللوبي الأرميني في فرنسا، حيث تعيش جالية أرمينية يقارب تعدادها 700 ألف نسمة؛ فقد فضلت أن تبقى وسيطا "نزيها"، كما قال وزير الخارجية جان إيف لودريان.

في الحقيقة، لا رغبة لباريس في خوض معركة في منطقة لا تنتمي إلى مجالها الجيوستراتيجي، (لا تركيا ولا إيران ولا روسيا ستسمح بذلك).

حسابات موسكو

بالتأكيد كانت روسيا تدرك حقيقة التفوق العسكري الأذري المدعوم تركيا، وتعلم أن تركيا قد دخلت بقوة في المعركة من خلال الخبراء العسكريين والطائرات المسيرة، وربما من خلال طائرات إف-16 (F-16)، فالمؤكد أن موسكو لم تؤخذ على حين غرة بهذا التقدم العسكري، لكنها أرادت أن يصل الوضع إلى ما وصل إليه عقابا لأرمينيا على توجهاتها الجديدة الأقرب إلى الغرب والولايات المتحدة، منذ "الثورة المخملية" التي حملت رئيس الوزراء الحالي نيكول باشينيان من السجن إلى السلطة، دون أن يخفي رغبته في تعديل عقارب ساعة أرمينيا على توقيت الغرب، بعد قرن من تثبيتها على توقيت موسكو.

كان هذا انتقام روسيا من باشينيان، ودرسها للآخرين ممن يفكر في إدارة الظهر لموسكو من الدول الأخرى القريبة. ثم إنها من جهة ثانية تستميل -بهذا الصمت الذي يدل على الرضا- أذربيجان إلى صفها أكثر، وتقدم هدية لتركيا ستنتظر مقابلا لها في منطقة أخرى، في إطار تفاهمات ممتدة من سوريا إلى ليبيا إلى شرق المتوسط فجنوب القوقاز. ثم من تكون أرمينيا بالنسبة لروسيا؟ إذ إن غضبها ورضاها يتساويان في نظر موسكو.

هكذا وجدت أرمينيا نفسها مجبرة بحسابات المعركة والسياسة على توقيع الاتفاق، لأنها خيرت بين اتفاق فوري تتوقف بعده المعارك، ويتوقف الجيش الأذري عند حدود شوشه/شوشي، أو استمرار المعارك مما يعني سقوط العاصمة وبقية تراب الإقليم. لذلك ابتلع رئيس الوزراء السكين وحده ووقع دون كاميرات تخفيفا من وطأة الإذلال.

تركيا.. اللاعب الجديد جنوب القوقاز

يبدو الانتصار الأذري في هذه المعركة بديهيا لا يحتاج إلى تفصيل، ما دام البلد قد استرجع أراضيه المحتلة، ونحو ثلثي إقليم قره باغ، لكن ثمة فاعل ظاهر في هذه العملية ما كان هذا النصر ليتحقق دون مشاركته المعلنة، وهو تركيا. فالاتفاق في حقيقة الأمر تمت صياغته بين موسكو وأنقرة، مما يجعلهما أكبر الرابحين من هذه الحرب؛ فموسكو تعزز قبضتها على جنوب القوقاز، وأنقرة تتحول إلى فاعل جديد في المنطقة بتوافق مع روسيا، على أن تقدم لها تنازلات ما في منطقة أخرى كما هو متوقع (ليس هناك شيء دون مقابل في العلاقات الدولية).

وعلى المدى القريب، تبدو أنقرة قد حققت مكاسب كثيرة، فقد كسبت حربا تصب في رصيدها الدولي، وعززت علاقاتها مع أذربيجان بكل ما يستتبع ذلك من مشاريع واتفاقات في مجال الطاقة، ثم إن تركيا أصبحت ترتبط بشكل مباشر بحدود مع أذربيجان ومع إقليم ناخيتشيفان، وهو الأمر الذي سيتم تحويله إلى بنيات أساسية تخدم الارتباط بمصادر الطاقة، وربما الوجود العسكري التركي هناك.

صحيح أن الاتفاق لا ينص على أي مشاركة تركية في نشر دوريات إلى جانب الجيش الروسي، لكن الرئيس الأذري إلهام علييف تحدث صراحة عن هذا الوجود، ولا يستبعد أن تكون هناك بنود غير معلنة أو مسكوت عنها يتم فرضها بحكم الأمر الواقع، ما دام الجانب المعترض -وهو أرمينيا- لا يتمتع بأي قوة تفاوضية تمنحه القدرة على فرض موقفه.

على هذا المستوى، يمكن القول إن أنقرة حققت اختراقا كبيرا، وأوجدت لنفسها موطئ قدم في منطقة جيوستراتيجية مهمة، هي منطقة جنوب القوقاز.

هل انتهت القصة؟

هذه الجولة انتهت بالتأكيد بهزيمة مذلة لأرمينيا، لكن لنتذكر أن الذي فجر هذه المعركة التي اندلعت في 27 سبتمبر/أيلول هما عاملان أساسيان: إذلال يستبطنه الأذريون منذ 1990، بعد سيطرة أرمينيا على قره باغ، وعلى خمس أراضيها، وقبولها صاغرة بوقف إطلاق النار، ثم تغير الموازين مع استعداد الجيش الأذري وانخراط تركيا في المعركة.

يصعب توقع نشوب حرب أخرى قريبا، لكن على المدى الطويل تبقى الشرارة جاهزة للاشتعال، إذا تغيرت موازين القوى أو تبدلت خريطة التحالفات في المنطقة. وهذا في مصلحة اللاعبين الكبار: روسيا اللاعب الكبير التقليدي في القوقاز، وتركيا الوافد الجديد. أما فرنسا والولايات المتحدة فيبدو موقفهما ضعيفا، وستكتفيان بالمقعد الخلفي مثل إيران تماما. وهذا الأمر قد يكون مصدر قلق حقيقي، خاصة بالنسبة لواشنطن التي تنظر بعين الريبة إلى هذه التفاهمات التركية الروسية في القوقاز.

أما أرمينيا، فالثمن الذي دفعته لن يكون عسكريا فقط بل سياسيا أيضا. فالغضب الشعبي كبير، وهناك إحساس بأن الحكومة باعت الوهم للشعب، ودفعت بالجيش إلى معركة لم يستعد لها، وعرّضت البلد للإذلال. ويبدو سقوط الحكومة ثمنا مناسبا للتخفيف من الحنق الشعبي. أما الذين غادروا ديارهم قبل شهر ونصف، وقيل لهم إن موعد العودة قريب، فقد استفاقوا على أن كل شيء قد انتهى، وأن عليهم أن يوطنوا أنفسهم على حياتهم الجديدة، فقره باغ لم يعد تابعا لأرمينيا.

المصدر : الجزيرة