من المقاطعة إلى التطبيع.. كيف فقد العرب بوصلتهم في 40 عاما؟

الشعوب العربية ضحايا التطبيع الرسمي مع اسرائيل- تصوير المراسل
السنوات الأخيرة شهدت هرولة استثنائية وفردية عربية نحو تل أبيب رغم الرفض الشعبي للتطبيع (الجزيرة)

أحمد حسن-القاهرة

في مثل هذا اليوم 27 مارس/آذار 1979 خرج اجتماع وزاري عربي عقد في بغداد بقرار مقاطعة مصر احتجاجا على توقيعها في اليوم السابق معاهدة سلام مع إسرائيل.

وفي وقت سابق من الشهر الجاري، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتصريح صادم قال فيه إن "التطبيع أصبح جزءا صغيرا من اتصالاتنا السرية مع العرب"، وفق صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية.

أربعة عقود فصلت بين القرار العربي والتصريح الإسرائيلي تكشف مدى تحول البوصلة العربية من مقاطعة تل أبيب إلى الهرولة نحوها.

وفيما تراجعت فرص السلام العربي الإسرائيلي منذ عام 2014 مع رفض إسرائيل وقف الاستيطان بأراضي فلسطين والقبول بحدود 1967 كأساس لحل الدولتين شهدت عملية التطبيع تطورا ملحوظا طالت دولا عربية محورية.

هذا التطور يبدو جليا في تغني المسؤولين الإسرائيليين -وعلى رأسهم نتنياهو- بتحسن العلاقات مع دول عربية تشترك مع بلاده في اعتبار إيران عدوا مشتركا.

وتأتي مساعي التطبيع العربية مع إسرائيل التي يقابلها رفض شعبي متزامنة مع حصار رباعي من قبل السعودية ومصر والبحرين والإمارات للجارة والشقيقة العربية قطر بمزاعم دعم الدوحة للإرهاب، وهو ما تنفيه الأخيرة، مؤكدة رفضها أي تدخل في شؤونها وقراراتها الداخلية.

بذور التطبيع
في أعقاب الهزيمة العربية في حرب يونيو/حزيران 1967 أطلق العرب بقمة الخرطوم -التي عقدت في العام ذاته- ثلاث لاءات عربية، هي: لا صلح ولا تفاوض مع إسرائيل ولا اعتراف بها.

وبعد أربع حروب طاحنة كانت مصر وإسرائيل طرفيها الرئيسيين أعوام 1948 و1956 و1967 و1973 وقع البلدان إطار سلام عرف بـ"اتفاقية كامب ديفد" أواخر 1978 بعد جولات مكثفة رعتها الولايات المتحدة، ومهدت تلك الاتفاقية في العام التالي لتوقيع القاهرة وتل أبيب ما تعرف بـ"معاهدة السلام" في 26 مارس/آذار 1979، وبموجبها اعترفت مصر بإسرائيل، فكانت أول دولة عربية تقدم على مثل هذه الخطوة.

فجرت المعاهدة موجة غضب عارمة تجاه القاهرة شعبيا ورسميا تم التعبير عنها في اليوم التالي (27 مارس/آذار 1979) بإعلان مجلس وزاري عربي طارئ عقد في بغداد مقاطعة مصر وقطع الخطوط الجوية معها، غلى جانب قرار بنقل مقر جامعة الدول العربية منها إلى تونس (عادت مصر إلى الجامعة عام 1989 وعاد مقرها إلى القاهرة عام 1990).

لم تمض سنوات معدودة حتى تراجع العرب قليلا في موقفهم بشأن العلاقة مع إسرائيل، إذ خرجت قمة فاس بالغرب عام 1982 بـ"اعتراف عربي ضمني بإسرائيل"، وإقرار مشروع سلام، من بين بنوده انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967 وليس الأراضي المحتلة عام 1948.

ومع الألفية الجديدة، خرج عن قمة بيروت عام 2002 أول حديث عربي عن القدس الشرقية عاصمة لفلسطين المأمولة، بعدما كان الحديث قبل ذلك يجري عن القدس كلها.

وأقرت تلك القمة "مبادرة السلام العربية" التي أطلقها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، كان من بين بنودها: إقامة دولة فلسطينية معترف بها دوليا على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وانسحاب إسرائيل من الجولان السوري المحتل مقابل اعتراف عربي بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها.

والمثير أن العرب اعتادوا على تجديد تمسكهم بتلك المبادرة رغم أنها لم تجد آذانا إسرائيلية صاغية حتى الآن.

والاثنين الماضي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتراف بلاده بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل بعد ما يزيد على عام من قرار مثير آخر بنقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل.

هرولة نحو التطبيع
باستثناء مصر والأردن لا تقيم بقية الدول العربية علاقات دبلوماسية علنية مع "إسرائيل" إلا أن السنوات الأخيرة شهدت هرولة استثنائية وفردية نحو تل أبيب، كان أبرز مظاهرها إقامة علاقات ثقافية ورياضية مثلما جرى في الإمارات والبحرين.

كما كشفت تقارير عن علاقات سرية متجذرة بين الرياض وتل أبيب مع صعود الأمير محمد بن سلمان وليا للعهد السعودي، في حين يرى مراقبون أن بن سلمان من أبرز المروجين لما تعرف إعلاميا بـ"صفقة القرن" التي طرحتها الإدارة الأميركية مؤخرا والمعنية بتصفية القضية الفلسطينية.

وتحدثت تقارير عن أن قضية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشجي داخل سفارة بلاده في إسطنبول قد تمهد إلى مزيد من التقارب السعودي الإسرائيلي في سياق "الصفقة" ضمن مساع لتجنيب ولي العهد أي متاعب في ظل شبهات بضلوعه مباشرة بتلك الجريمة التي هزت وضع بلاده الإقليمي والدولي.

وفي أواخر 2017، كشفت تقارير غربية -من بينها تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية- أن بن سلمان زار إسرائيل سرا في سبتمبر/أيلول من العام ذاته، فضلا عن زيارات معلنة للأراضي المحتلة قام بها مسؤولون بارزون، من بينهم ضابط الاستخبارات السعودي السابق أنور عشقي.

وأعرب رئيس الاستخبارات السعودي الأسبق تركي الفيصل في فبراير/شباط الماضي عن أمله في زيارة إسرائيل خلال لقاء ودي مع صحفي إسرائيلي.

ومثل الرياض ذهبت أبو ظبي بعيدا في علاقتها السرية والمعلنة مع تل أبيب، إذ كشفت وثائق ويكيليكس عن شراكة اقتصادية ومناورات عسكرية وتبادل رحلات جوية وتعاون أمني واسع بين الجانبين.

وشهدت سلطنة عمان في أكتوبر/تشرين الأول الماضي زيارة نتنياهو كثاني مسؤول إسرائيلي كبير يزور مسقط بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين عام 1994.

وبالتزامن مع موجة التطبيع المجاني، شهد مؤتمر وارسو منتصف الشهر الماضي تكريسا لمساعي "مواجهة التهديد الإيراني" كأولوية في الشرق الأوسط على حساب حل القضية الفلسطينية.

إيران في معادلة التطبيع
هذه الهرولة اللافتة نحو تل أبيب يراها مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والإستراتيجية في لندن (غير حكومي) زهير سالم تعود إلى أن "العرب حاليا ليسوا عرب السبعينيات (في إشارة إلى الرفض العربي للتطبيع آنذاك)".

وفي حديثه للجزيرة نت أشار سالم إلى "تغييرات كبيرة مجتمعيا وشعوبيا وسياسيا وجيوسياسية وتحالفات إقليمية ودولية تتشكل بالعالم والمنطقة من جديد".

وعن تفسيره للمعادلة العربية الحالية للتطبيع، قال سالم إن "الأنظمة العربية فقدت كل نطاق ارتكازاتها، حيث كانت سابقا تهاب الشعوب، أما الآن فأخرجت تلك الأنظمة الشعوب من حساباتها".

وتابع "تلك الأنظمة تبحث حاليا فقط عن تحالفات مع الولايات المتحدة وإسرائيل".

وثمة أمر أشار إليه سالم يتمثل في أن الوجود الإيراني بالمنطقة العربية أصبح يرهب قادة الخليج أكثر من الوجود الإسرائيلي في فلسطين، مدللا على ذلك بمناوشات الحوثيين في اليمن مع السعودية والإمارات.

وفي هذا الصدد، يشير سالم إلى أن البعض يرى أن الحلم الإسرائيلي المزعوم قد يكتفي بفلسطين كاملة أو يضم هضبة الجولان المحتلة، أو حتى ما بين نهري النيل والفرات، لكنه في النهاية لن يذهب إلى الجزيرة العربية كإيران التي وضعت قدما في أكثر من بلد عربي.

غير أنه استدرك محذرا من أن "التطبيع مع تل أبيب ليس في صالح المنطقة وشعوبها وأيضا حكامها".

وقال "حتى إن كان الإيرانيون مخيفين يجب على العرب أن يكون لديهم مشروع خاص يدافعون به عن أنفسهم أمام التمدد الإيراني والوجود الإسرائيلي" على حد سواء.

المصدر : الجزيرة