أموال وتعتيم وسخافات.. من كواليس التغطية الإعلامية لمعركة الباغوز السورية

Fighters of Syrian Democratic Forces (SDF) are seen in the village of Baghouz, Deir Al Zor province, Syria March 10, 2019. REUTERS/Rodi Said
مقاتلان من قوات سوريا الديمقراطية خلال مواجهات مع تنظيم الدولة بأطراف قرية الباغوز (رويترز)

من الباغوز آخر معقل لتنظيم الدولة الإسلامية شرق نهر الفرات بمحافظة دير الزور (شرقي سوريا)، كتب مبعوث صحيفة لوتان السويسرية بوريس مارليبار، الممثل الوحيد للصحافة المكتوبة هناك، تقريرا لا يخلو من سخرية، وصف فيه كيف يعمل الصحفيون الذين يغطون الهجوم الأخير على جيب لا تتجاوز مساحته أربعة كيلومترات مربعة.

بدأ المراسل من إعلان المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية مصطفى بالي أمام جمهور من الصحفيين -وصفهم الكاتب بأنهم متشككون وغير صبورين- عن الهجوم النهائي على قرية الباغوز التي تشكل آخر جيب لـ"دولة الخلافة".

وسخر من أن هذه القوات، التي تعد وحدات حماية الشعب الكردية المكون الرئيسي فيها، ظلت تعد منذ ثلاثة أشهر مرارا وتكرارا بهزيمة وشيكة لآخر الجهاديين.

وقال مارليبار إن القنوات التلفزيونية الكبيرة ووكالات الصحافة أرسلت فرقا لديها إمكانيات مالية كبيرة، حتى إن بعضها لديه طبيب خاص في حالة الطوارئ، وعدّ من بينها القناة الفرنسية الثانية وشبكة "سي أن أن" ووكالة رويترز ووكالة الصحافة الفرنسية وإذاعة فرنسا الدولية.

وأشار الصحفي السويسري إلى أنه كان الوحيد من وسائل الإعلام المطبوعة بسبب كثرة المصاريف والمخاطر.

‪قنابل مضيئة في سماء الجيب الأخير لتنظيم الدولة شرق نهر الفرات‬ (رويترز)
‪قنابل مضيئة في سماء الجيب الأخير لتنظيم الدولة شرق نهر الفرات‬ (رويترز)

بسعر الذهب
وأوضح أن الخدمة هناك تقاس بسعر الذهب، إذ يتطلب الأمر منه يوميا ما بين 500 و1500 فرنك سويسري (سعر الفرنك متقارب جدا مع الدولار) بين المترجم ومصروف الجيب والسائق، مشيرا إلى أنه بالفعل استطاع بالترقيع أن يسد حاجياته.

ولم يتوقع المراسل أن تعج الساحة بهذا الكم الكبير من الصحفيين، رغم أنه كان على يقين بأنه لن يكون الوحيد هناك، ووصف مكان إقامتهم بأنه مبنى مهجور تحوّل إلى قاعدة عسكرية وسط بنية تحتية صناعية مدمرة تماما بسبب المعارك.

لكن هذا المقر بمقاييس مناطق الحرب يعتبر فخما، لأنه تتوفر فيه دورات مياه وأماكن للاستحمام والكهرباء وغرفة للطعام، مع أن المراحيض تفيض، وأحيانا تتسرب المياه من الأنابيب من كل مكان تاركة بركا كبيرة، كما أن الكهرباء متقطعة لكثرة توقف المولد.

وعرج المراسل على المقاتلين الأكراد الذين تتمثل مهمتهم في مساعدة الصحفيين، وقال إنهم يظهرون الكثير من الإخلاص، وإن من بينهم أعضاء في لواء دولي مشكل من النساء.

وأوضح أن بعضهم يعمل لوكالة الأنباء المحلية المرتبطة بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري (بي واي دي)، والبعض الآخر مقاتلون لضمان سلامة القاعدة ومن فيها.

عناصر من تنظيم الدولة يتجولون بمخيم لهم في أطراف الباغوز (رويترز)
عناصر من تنظيم الدولة يتجولون بمخيم لهم في أطراف الباغوز (رويترز)

تحت السيطرة
وأشار المراسل إلى أن هذه الضيافة التي توفرها قوات سوريا الديمقراطية لها مقابل، وذلك أنهم خاضعون لرقابة صارمة لأنهم لا يملكون القدرة على المناورة، ولا يحصلون إلا على ما يراد لهم أن يطلعوا عليه، مع أن هناك ثغرات يمكن استغلالها، ووجود إمكانية للحصول على معلومات لم يصدّق عليها القائد.

هنا كل شيء له أهمية إستراتيجية هو بالطبع سر، كما يتم إبعاد الصحفيين عن المعارك المهمة والمعارك الحاسمة -كما يقول المراسل- لأسباب عسكرية وللحفاظ على السلامة.

ومع ذلك نظم مصطفى بالي الاثنين قافلة صحفية إلى الباغوز، كما يقول المراسل، لكنه عندما وصل إلى الجزء المحرر من القرية الكبيرة أخذ معه بعض فرق الصحفيين من أصحاب الامتيازات الذين نسجوا علاقات بعد أيام أو أسابيع في القاعدة لقيادتهم إلى الخطوط الأمامية.

بيد أن المراسل بسبب أنه لم يكن من هؤلاء المحظوظين فرض نفسه، كما يقول، وتتسلل بسيارته غير المرئية ولا المعروفة، وعندما اقترب من "خطوط العدو" تقدم سيرا على الأقدام في مجموعات صغيرة.

مقاتلون من التنظيم وأفراد من أسرهم يستسلمون للوحدات الكردية (رويترز)
مقاتلون من التنظيم وأفراد من أسرهم يستسلمون للوحدات الكردية (رويترز)

مسرح السخفاء
وقال المراسل إن المخاطر قد تكون بالفعل موجودة، ولكن الصحفيين الذين يحبون الظهور غالبا ما يبالغون فيها، مؤكدا أنه هو الآخر يخضع لهذا التمرين. وأضاف ساخرا أن أعضاء التلفزيون الهولندي كانوا يسخرون منه لأنه ليست لديه المعدات اللازمة.

وكما قال إن الخطوط الأمامية كثيرا ما تكون مسرحا للسخفاء حيث يتقدم للعرض صحفي يرتدي خوذة وسترة صدرية مضادة للرصاص للظهور المباشر الذي لن يذهب صاحبه إلى مكان القتال، أو صحفي يتحدث بصوت لاهث على الهواء ليعتقدوا أنه تحدى ألف خطر.

وأشار الكاتب إلى أن هناك قيودا ذات دوافع سياسية جعلتهم يبقون أسبوعا لم يتمكنوا خلاله من مقابلة أو رؤية من يفرون من مناطق "الخلافة" وخاصة من النساء والأطفال حتى إن مصطفى بالي ادعى أن عمليات الإجلاء قد انتهت رغم أن مارليبار تمكن من رؤية شاحنات نقل الماشية التي يتم نقلها خارج الباغوز.

وأوضح أن السبب في ذلك التعتيم هو كثافة سكان المربع الأخير، حيث إن كل قنبلة قد تؤدي إلى الكثير من الإصابات والقتلى، وبالتالي فإن صور هؤلاء المدنيين حتى لو كانوا نساء وأطفال الجهاديين ستقوض أسطورة حرب لا تستهدف سوى المقاتلين على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف.

وختم المراسل بأن هناك تعليمات تقيد الوصول إلى عمليات الإجلاء التي يقوم بها التحالف الدولي، خاصة القوات الفرنسية والأميركية والبريطانية الموجودة في المنطقة المسؤولة الأولى عن معظم القصف الجوي، والحاضرة جسديا لتحديد المشتبه فيهم واستجوابهم.

وانتهى مارليبار إلى أن كل الحروب قذرة وتتم فيها رعاية النفاق والكذب فيما يتعلق بالعمليات، مما يجعله يشعر بالقرف من كل النزاعات.

المصدر : الصحافة السويسرية