حين أصبح المنبوذ رئيسا للبلاد

Indian President Kocheril Raman Narayanan places a garland on thememorial of Mahatma Gandhi, father of India, in New Delhi October 2,2001. India celebrated the 132nd anniversary of Gandhi's birth onTuesday. REUTERS/Kamal KishoreKK/JD
نارايانان اعتبر لحظة تنصيبه تتويجا لرحلة غاية في الصعوبة (رويترز-أرشيف)

محمود العدم

الزمان صيف العام 1997، والمكان العاصمة الهندية نيودلهي، أما المناسبة فتنصيب رئيس جديد للبلاد، القصر الرئاسي "راشترا باتي بهوان" المتأنق على عادته يموج برجال الدولة وأعضاء السلك الدبلوماسي والضيوف، كل شيء حتى اللحظة يبدو طبيعيا في مناسبة تتكرر كل خمسة أعوام في أكبر ديمقراطيات العالم.

لكن المفارقة تكمن في أن بطل المشهد، رجل تمكن من انتشال نفسه من جبلتها المصبوغة على الشعور بالدونية، تنحدر بها إلى مرتبة دون العبيد والحيوانات، فهو من طبقة الداليت المنبوذة في الثقافة الهندية إلى حد يفرض عليهم فيها أن "لا مساس".

من رحم هذه الظلمة الموغلة في امتهان الإنسانية، خرج القانوني البارز ك.ر. نارايانان ليسجل سابقتين فريدتين، الأولى أنه ينحدر من ولاية كيرلا الصغيرة الفقيرة في أقصى جنوب البلاد التي لم يسبق لها تقديم رجال دولة من الصف الأول في الهند.

والأخرى، أنه تربع على عرش أعلى سلطة في البلاد، لينتشل المنصب والبلاد من غياهب ظلم حاق بالجميع على مدى قرون.

رئيس الهند الأسبق (يمين) مع رئيس وزرائه فاجباي عام 2001 (رويترز)
رئيس الهند الأسبق (يمين) مع رئيس وزرائه فاجباي عام 2001 (رويترز)

رحلة صعبة
ولا بد من تعريج بسيط على حياة هذا الرجل الذي قضى معظم أيام دراسته الابتدائية مستمعا من خارج الصفوف، لأن عائلته لم تملك رسوم الدراسة، لكنها واصلت وبتصميم عجيب تدريسه.

تخرج من الثانوية العامة بمرتبة الشرف، مما سمح له دخول جامعة ترافانكور في الولاية، حيث أثبت الشاب الفتي وجوده ووضع نفسه على الطريق، حين تمكن من التخرج بمرتبة الشرف في مرحلتي البكالوريوس والماجستير في اللغة الإنجليزية.

رحل بعدها إلى العاصمة نيودلهي، التي تختفي فيها قليلا الفروقات الطبقية في ظل المدينة المنفتحة، وكانت الصحافة بوابته للعالم.

ويقوده القدر مرة أخرى إلى مقابلة صحفية منفردة مع زعيم النضال الهندي ضد الاستعمار البريطاني المهاتما غاندي وكانت في مدينة بومباي عام 1945، كان الاستعمار وقتها يعد أيامه الأخيرة.

شكلت المقابلة منحنى في حياة الشاب الجلد، توجه بعدها لإكمال دراسته في العاصمة البريطانية لندن، وهناك حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد والقانون، وتعرف إلى عدد من سياسيي العالم.

عاد إلى الهند عام 1948 تصحبه أقداره المواتية، ليقدم إلى أول رئيس للوزراء في عهد الاستقلال جواهر لال نهرو عام 1948، ويبدو أن الأخير لمح فيه موطنا أو أكثر من "النبل والاستقامة والحنكة"، وهو ما يرويه عن نفسه، فعينه في السلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية.

وخاض الرجل مبكرا غمار السياسة والدبلوماسية متسلحا بدرجة الدكتوراة في القانون الدولي، وعين سفيرا للهند في أكثر من بلد، كما شغل بعد تقاعده عدة مناصب في الجامعات الهندية، إلى أن اكتمل عقد إنجازاته برئاسة الجمهورية.

‪الرئيس الهندي الحالي كوفند أيضا ينتمي لطبقة الداليت‬ (غيتي)
‪الرئيس الهندي الحالي كوفند أيضا ينتمي لطبقة الداليت‬ (غيتي)

لحظة التنصيب
يقول نارايانان عن لحظة التنصيب "إنها كانت تتويجا لرحلة غاية في الصعوبة"، قد لا تحمل هذه الكلمات جديدا، لكنها كانت بالنسبة لكثير من أبناء طبقته انعطافة في التاريخ الحديث توازي لحظة الاستقلال عن استعمار استمر لقرون.

كسرت تلك اللحظة كل القوالب، واعتلى رجل من الطبقة المنبوذة أعلى منصب في البلاد، لينقلها إلى مرحلة تحترم إنسانية الإنسان.

يقول نارايانان عن تنصيبه "إن الأمة توافقت علي لأحتل أعلى منصب في البلاد، كواحد من أبناء الشعب نشأ وترعرع في غبار وحرارة هذه الأرض المقدسة، وهو تنصيب ذو رمزية عالية يثبت أن آمال الرجل العادي قد انتقلت الآن إلى مركز الصدارة في الحياة الاجتماعية والسياسية، وهنا يكمن فرحي وليس بتنصيبي شخصيا".

كانت تلك اللحظة مقدمة لأخرى مشابهة في نفس التاريخ من العام 2017 حين قام الرئيس الهندي الحالي رام ناث كوفيند (71 عاما)، بأداء اليمين الدستورية، وهو من الطبقة ذاتها أيضا.

تشييع جنازة نارايانان في العاصمة نيودلهي عام 2005 (رويترز)
تشييع جنازة نارايانان في العاصمة نيودلهي عام 2005 (رويترز)

مجتمع متناقض
وللتعرف على ما يعنيه تنصيب رئيسين من هذه الطبقة، لا بد من وقفة متأنية للتعرف على هذا المجتمع المليء بالتناقضات.

فوراء أنصع مثال للديمقراطية في العالم، يكمن أكبر امتهان للإنسان فيه، وبه تحكم الثقافة العتيدة على أحدهم بالإعدام إن داس خطأ ظل رجل من طبقة أخرى.

في ظل هذه الثقافة يحظر لمس أفراد هذه الطائفة، ويحظر عليهم دخول المعابد وارتداء أحذية أو حمل مظلات أمام أفراد الطوائف الأخرى، ويحظر عليهم دخول منازل غيرهم واستخدام طريق القرية العام، وحتى الموتى لهم مقابر منفصلة.

كما لا ينتمي أفراد هذه الطائفة الذين يقدر عددهم في البلاد بأكثر من مئتي مليون، إلى درجات سلم طوائف المجتمع الهندوسي الأربع الأساسية، المرتبة بدءا بالبرهمن وهم رجال الدين، و"الكشاتريا" وهم الحكام والمحاربون، ثم التجار والحرفيون "الفايشيا" وأخير "السودرا" وهم الخدم والعمال.

وبحسب الثقافة الهندوسية فإن الأرواح الشريرة التي فعلت الشر في حياتها الأولى، قد عوقبت بالتناسخ في أجساد تلك الطبقة الدنيا، وبالتالي "فإنه من العدل ازدراء واحتقار تلك الطبقة".

مظاهرة للداليت في ولاية راجستان شرقي الهند للمطالبة بحقوقهم (رويترز)
مظاهرة للداليت في ولاية راجستان شرقي الهند للمطالبة بحقوقهم (رويترز)

الدستور الهندي
ورغم أن الدستور الهندي قد ألغى وجرم صراحة، في دستور عام 1950، فكرة الطبقة المنبوذة، فإنها لا تزال موجودة، رغم عدد من الإجراءات الحكومية التي تحاربها.

كما أن مقررات الأمم المتحدة لا تزال تنص على أن التمييز الطبقي ضد تلك الطائفة ما زال موجودا في الهند خصوصا في المناطق النائية بعيدا عن المدن والحضر.

ولا يحظى أبناء هذه الطبقة بتمثيل سياسي يتناسب مع وجودهم، لكنهم يعتبرون مخزنا هائلا للأصوات، وتسعى الأحزاب السياسية إلى تجييش عواطفهم القومية للفوز بأصواتهم مع كل جولة انتخابية.

ورغم الحراك السياسي والاجتماعي لإنصاف أبناء هذه الطبقة، فإن النظام الطبقي في الهند المرتبط بالثقافة الهندوسية سيظل راسخا لدى الغالبية العظمى من الهندوس.

المصدر : الجزيرة