بعد موت عجوزين بردا.. هل يجمل السيسي صورته بـ "صفية"؟

ياسر سليم - سيدة تنتظر الصباح وقطة تنتظر استيقاظها (تصوير خاص ـ القاهرة ـ يناير 2019) - النوم حد الموت بشوارع القاهرة الباردة
سيدة تنتظر الصباح وقطة تنتظر استيقاظها (الجزيرة)
عبد الكريم سليم-القاهرة

يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. عبارات لطالما جرى استخدامها لوصف حال آلاف من ساكني الأرصفة في مصر، خاصة القاهرة الباردة، رجالا ونساء، لكنها لم تكن ببلاغة صورة لامرأة مشردة ماتت من البرد، على رصيف ملاصق لحي المحلة الكبرى شمال القاهرة، أو صورة مسن مات أيضا من البرد في شوارع مدينة ملوي بمحافظة المنيا جنوب القاهرة.

ربما ينتظر الموت بردا وجوعا مزيد من ساكني الأرصفة، ممن تعجز الكلمات عن وصف رعشات أجسادهم، وما يشعرون به في أعماقهم، في أيام باردة كالتي شهدتها بعض محافظات مصر مؤخرا.

ولا يكاد يخلو شارع بالقاهرة من مشرد اعتاد المارة على رؤيتهم، فباتوا جزءا من الشوارع، وبقية من أهلها.

وتضاربت أعداد المشردين في شوارع مصر، فبحسب تقرير نشرته الصحف المحلية نقلا عن المركز المصري للحق في السكن يبلغ عدد المشردين نحو ثلاثة ملايين، في حين نقلت صحيفة الأهرام الحكومية عمن وصفتهم بالخبراء أن العدد حوالي مليون مشرد، وأعلن المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية أن عدد المشردين من الأطفال فقط بلغ 16 ألفا، إلا أن منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة تُقدر عدد الأطفال ما بين 600 إلى 800 طفل مشرد.

صفية والسيسي
حالتا الوفاة من البرد في المحلة والمنيا أثارت تعاطف رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وتداول ناشطون صورا لمشردين في شوارع القاهرة، كان أشهرها السيدة صفية التي تعاني المرض والبرد وسط القاهرة.

انتشار صور السيدة صفية بالتزامن مع تزايد الغضب من موت المشردين بردا، دفع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى إنقاذ صفية، وهو ما جرى على الفور.

وأذاعت وسائل الإعلام المحلية، فيديو لعملية إنقاذ صفية ونقلها إلى المستشفى وسط رعاية واهتمام بالغ، وهو ما يدفع للتساؤل لماذا لم تتحرك أجهزة الدولة إلا بعد أوامر السيسي، كما يدفع للتساؤل عن مصير آلاف المشردين الآخرين. 

‪
‪"سيدة" تتقي الرياح الباردة بورق مقوى‬ (الجزيرة)


سيدة وقطط الشوارع
اسمها سيدة، استوطنت الرصيف بجوار أحد المساجد في حي مدينة نصر بالقاهرة، عقب طردها من شقة كانت تخدم فيها سيدتها بإخلاص وتفان، حتى ماتت سيدتها، فجاء أبناؤها وطردوا سيدة.

تبيع سيدة المناديل، على قفص خشبي، وكانت تحتمي من ريح عاصف بورق مقوى "كارتونة"، طارت منها فجأة بقوة الرياح التي أثارت الأتربة.

آخر النهار تحتمي بها قطط المنطقة، لتقاسمها لقمتها من حصيلة بيع المناديل، ثم تنام القطط بالقرب منها، في حين تلتحف هي بطانية تصدق بها عليها أحد السكان.

لا تدري سيدة إلى أين تذهب، فهي لا تعرف بالقاهرة مكانا سوى بيت سيدتها، بعد ما جاء بها أهلها صغيرة للقاهرة، وأودعوها عند أرملة لتساعدها في العناية ببيتها وأبنائها، في حين كانت هي تحتاج من يعتني بها كطفلة.

حينما حل أجل السيدة، أوصت أبناءها بها، لكنهم بعد موتها اتفقوا على بيع الشقة، ومنحوها بعض المال -وكأنهم يعملون بوصية الأم- وسرعان ما تبدد المال، ولم تجد سيدة مأوى.

تشد سيدة الكرتونة مقاومة الرياح، وهي تحكي كيف أنها حاولت العمل بالمنازل، تغسل السجاد وتنظف الأرضيات، لكن صحتها لم تعد تعينها كما كانت.

تسرح طويلا وهي تنظر للشمس التي توارت بحجب السحب، وكأنما ترجوها الظهور، التماسا لبعض الدفء، وتتذكر كيف حاولت العودة لبلدتها بالصعيد، ولكن من يؤويها هنالك؟

مات أبوها تاركا أختا تزوجت صغيرة، وأمها ترملت لسنوات ثم لحقت بالأب، فاضطرت هي للبقاء بالقاهرة، هنا لا يعرفها أحد إن عملت في بيع المناديل أو افترشت الطريق، ولن تجلب العار لأختها أو الصَغَار لسيرة أبيها الفقير.

تموء قطة بالقرب منها، وكأنها تستأذنها في أن تأوي إليها من الرياح الباردة، فتبتسم لها سيدة ابتسامة باعثة على نشر الدفء في كل من حولها، فتسارع إليها القطة. 

‪عمر  يسرح في ملكوته من الصباح للمساء في مأواه بالشارع‬ (الجزيرة)
‪عمر  يسرح في ملكوته من الصباح للمساء في مأواه بالشارع‬ (الجزيرة)


التشرد بالماجستير
اختار عمر الجلوس إلى جوار مسجد بحي الدقي بالقاهرة، "ليأنس به"، حاملا مسبحته ومفترشا سجادة صلاة، رافضا مد يده لطلب المساعدة من المارة، لكنه يقبل الطعام والشراب المقدم إليه، ولا يعرض إبراهيم أي بضاعة ليتكسب منها، بل يظل يتمتم سارحا في الملكوت.

عمر حاصل على بكالوريوس التجارة من جامعة القاهرة، واستكمل دراساته العليا حتى درجة الماجستير، وحاول كثيرا الحصول على عمل، لكنه اصطدم بصراعات مفترسة على الوظائف، أدت به للزهد في كل شيء، واتخاذ الرصيف مأوى له.

في فناء المسجد المجاور، يبيت عمر لياليه الطويلة الباردة فهو "أدفأ من القصور"، يلفظها عمر وهو يتمتم بالذكر، ويصمت طويلا، ثم يسبح في السماء، وهو يسبح بحمد الله، كأنه يغوص في عالم غير أرضي.

لا يبالي عمر بنظرات المارة المندهشة من وجوده، ممسكا بكلتا يديه كوب الشاي كأنه يستمد منه دفئا عزيزا، ثم يحرص على هندام مكان جلوسه الذي يؤويه من الصباح حتى المساء، منذ أن غادر أسرته الصغيرة قبل سنوات لا يذكر عددها. 

جهود حكومية وشبابية
تقول وزيرة التضامن الاجتماعي غادة إن فريق التدخل السريع بالوزارة نجح منذ إنشائه عام 2014 في التعامل حتى الآن مع 537 حالة بلا مأوي كانوا يفترشون الأرصفة، وقام بإيداع أغلبهم بدور الرعاية الاجتماعية التابعة للوزارة مع توفير الرعاية المناسبة والحياة الكريمة.

كما تشهد فيه شوارع مصر ظاهرة إيجابية، حيث أسس عدد من الشباب مبادرات شخصية مستقلة لرعاية المشردين وإنقاذهم من الشوارع، وهي المبادرات التي لاقت ترحيبا وتعاطفا واسعا.

يأتي هذا، في الوقت الذي تقلص فيه دور الجمعيات الخيرية التي كانت تقدم مساعدات لهؤلاء المشردين إلى جانب الفقراء والمعوزين، بسبب التضييق الأمني والمصادرة، خاصة للجمعيات التابعة للتيار الإسلامي، ليظل المشردون يسكنون أرصفة الشوارع، تبصرهم أعين المارة، ولا تصل إليهم أيديهم إلا بالقليل من الغذاء والكساء.

المصدر : الجزيرة