ليبراسيون: صبرا وشاتيلا تجسيد حيّ لقصة "البؤساء"

BEIRUT, LEBANON - FEBRUARY 22: A Palestinian woman passes by the graveyard of the massacred Sabra and Shatilla martyrs in the refugee camp of Shatilla on February 22, 2005, in Beirut, Lebanon. There are around 368,000 registered Palestinian refugees in Lebanon with approximately 200,000 of them living in 12 official refugee camps. The conditions in the camps are dire with water shortages, contaminated water and poor sanitation severely affecting residents' health. Leba
قضماني: صبرا وشاتيلا تجسيد لما يعانيه الفلسطينيون من بؤس وظلم وتعاسة وألم (غيتي)
افتتحت الأمم المتحدة عام 1949 مخيم شاتيلا في لبنان للاجئين الفلسطينيين، وقد نما عدد سكانه رغم الصراعات المتتالية. وإذا كانت ذكرى مجزرة عام 1982 التي شهدها بدأت تتلاشى شيئا فشيئا، فإنما لتدع المجال لعذابات الحياة اليومية هناك، حسب مقال بصحيفة ليبراسيون.
وغير بعيد عنه، قرب منعطف على طريق سريع جنوب بيروت يجثم مخيم شاتيلا، وهو كيلومتر مربع من الفقر لا يُرى من الخارج، ويستقبل الداخل بروائحه قبل رؤية المعروضات.
وفي مقالها بهذه الصحيفة، تصف مبعوثتها إلى بيروت هالة قضماني المخيمين الفلسطينيين بما يعنيانه من بؤس وما يعانيانه من ظلم وحياة تعيسة وماض مؤلم.
ففي شاتيلا، تستقبل الداخل -كما تقول الكاتبة- رائحة الدم المنبعثة من رؤوس الحملان المذبوحة حديثا مختلطة بما ينبعث من السمك من روائح غير ممتعة، أمام بائع بنغالي، لا يعرف مصدر ولا اسم بضاعته بكلمات الإنجليزية أو العربية القليلة التي يخلط بينها، لكن زبائنه يشترون منه.
هذه الزاوية من السوق للعمال البنغاليين أو السريلانكيين -الذين يدخلون لبنان بعقد لمدة ست سنوات- لا تكاد أرباح العامين الأولين تغطي الآلاف الستة من الدولارات التي دفعوها للوكلاء من أجل الحصول عليه للدخول بشكل قانوني.
وعلى بعد أمتار قليلة بهذا المخيم، يمتلك السوريون والمصريون ونادرا بعض اللبنانيين أكشاك الفواكه والخضار الرائعة، بما فيها مكونات التبولة والبقدونس والنعناع والبصل الأبيض، وخلفها الباذنجان ذو الألوان المختلفة والطماطم، وفقا لقضماني.
وأمام معروضاته، يدعو أبو أحمد بالإنجليزية كل المارين الذين يتوسم فيهم أنهم أجانب، فقد كان قبل قدومه مع أولاده الستة من دير الزور مترجما للشركات النفطية التي كانت تعمل قبل الحرب هناك، ولكنه لقي كل صنوف العذاب قبل الفرار من بلده.
ويقول أبو أحمد للكاتبة إن بيته دمرته غارة لطيران النظام والروس، وإن حيهم الذي كان يسيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية قد سوي بالأرض بالقنابل. وقبل بضعة أشهر كما يقول "اعتقلني تنظيم الدولة وضربوني لأنني حلقت لحيتي. لقد فقدت وظيفتي كمدرس للغة الإنجليزية في معهد خاص".
ويضيف اللاجئ خريج الأدب الحديث –حسب الكاتبة- "لو كان فيكتور هوغو حيا لما وسعه إلا إعادة كتابة البؤساء".

ويأمل ألا تكون شاتيلا سوى مرحلة على طريق هجرته إلى أوروبا، وفي انتظار ذلك يعمل في تجارته لإطعام ذويه وتحصيل تكاليف الرحلة العام المقبل إن شاء الله، كما يقول.

محنة كل يوم
تجذب هذه السوق الرخيصة إلى حد الثلث أو الربع بالمقارنة مع الأحياء الأخرى كل المحرومين من مدينة بيروت، وهي ليست جديدة، فقد كانت تعرف باسم "سوق صبرا للخضراوات" قبل أن تصبح الآن سوق شاتيلا، فالمخيمان الفلسطينيان لا تفصلهما حدود واضحة، وقد أصبحا مشهورين بعد مجزرة سبتمبر/أيلول 1982، كما تقول الكاتبة.
في ذلك اليوم، وخلال اجتياح الجيش الإسرائيلي لبيروت، استباحت المليشيات المسيحية المخيمين لمدة 48 ساعة، مما أسفر عن مقتلة بين المدنيين، بينهم مئات النساء والأطفال، حسب مبعوثة ليبراسيون.
وقد تم تدمير صبرا بالكامل في حلقة دموية أخرى بين عامي 1985 و1987، عندما حاصر الجيش السوري المتحالف مع مليشيا أمل الشيعية المخيم وقصف السكان خلال "حرب المخيمات" مما أدى إلى قتل آلاف من الفلسطينيين واللبنانيين.
وتقول الكاتبة إن هذه المجازر أصبحت قصصا قديمة، تطاردها من الذاكرة محن الحياة اليومية وقصص القادمين الجدد من ضحايا الموجة الجديدة من المآسي بالمنطقة والمهاجرين من بلاد بعيدة.
فقد غدت شاتيلا ملجأ المعدمين من أهل بيروت والغرباء من مصريين وسريلانكيين وإريتريين وجدوا فيها سكنا رخيصا، كما تقول سلوى المعلمة الفلسطينية المولودة بهذا المخيم، مضيفة دون تأثر "كلنا ننتمي للطبقة صفر من المجتمع".
فهذا المخيم -الذي أنشئ عام 1949 من أجل ثلاثة آلاف لاجئ- أصبح جزءا كبيرا من البؤس في العالم حيث يؤوي اليوم عشرة آلاف، وفقا للأرقام الرسمية من وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين (أونروا).
غير أن السوريين والفلسطينيين القادمين من سوريا استوطنوا مؤخرا هذه المساحة المكتظة أصلا، وتقول بعض التقديرات إن عدد سكان المخيم يصل أربعمئة ألف. وهكذا تنافس شاتيلا غزة في الكثافة السكانية وسوء الحال، فالبنية التحتية للمياه والكهرباء والصرف الصحي في وضع مزرٍ.
نصب الصحراء
وفي وصفها للمخيم، تدخل الصحفية من شارع السوق إلى زقاق بعرض مترين لتلج قلب مخيم اللاجئين الفلسطينيين، حيث "المعالم لا تخدع" -كما تقول قضماني- إذ تطالع بالداخل صورة قديمة لياسر عرفات الزعيم التاريخي لحركة التحرير الفلسطينية الذي أعلن منذ ثلاثين سنة إنشاء دولة، وصورة لقبة مسجد الصخرة بالقدس معلقة وسط شبكة عنكبوتية من الكابلات الكهربائية. 
ولا يكتمل المشهد إلا بصوت المغنية اللبنانية فيروز التي غنت "لشوارع القدس القديمة" ينبعث من هاتف خلوي وكأنه يذكر بالهجرة التي بدأت قبل سبعين سنة.
أم محمد وهي أرملة أربعينية من الجيل الثاني من اللاجئين وأم لثلاثة أطفال، تدير محلا للقهوة وبيع البسكويت ورقائق البطاطس، تقول "الربح القليل الذي أحصل عليه من هذا المتجر يتيح لي توفير النفقات اللازمة لتعليم أولادي وشراء ملابسهم ونقل محمد إلى الكلية في حي بير حسن".
وتضيف أن ابنتيها البالغتين من العمر سبع وتسع سنوات تدرسان بمدرسة "رام الله" إحدى مدرستين ابتدائيتين تديرهما أونروا في شاتيلا، حيث نظافة المبنى لا تتناسب مع البيئة المحيطة من أزقة ضيقة وداكنة تعج جوانبها بالمباني المتبعثرة.
وتضم المدرسة 732 طالبا في ستة صفوف بينهم 180 من الفلسطينيين القادمين من سوريا السنوات الخمس الأخيرة. وتقول مديرتها سحر دبدوب "التعايش لم يكن سهلا في البداية" وتقدم الجدد على أنهم سوريون و"كان علينا أن نوضح للجميع باستمرار أنهم جميعا فلسطينيون" قدموا في موجات من اللاجئين الفارين من الحصار والقتال في مخيم اليرموك بالقرب من دمشق بين عامي 2012 و2016.
مثل الموتى
وتتذكر دبدوب أنه "في بداية وصول الفارين من اليرموك، تدفقت المساعدات من جميع أنحاء العالم، من دول عربية وأوروبية".
وقد وضعت جميع أنواع البرامج الطبية والتعليمية وحتى الترفيهية للأطفال، وانتشرت ورشات عمل للرقص والموسيقى والفنون -كما تقول المديرة- "لكن مع مرور الوقت تناقص عدد المساعدين وأصبحنا جميعا متساوين في العدم".
وفي الشارع الرئيسي الذي لا يتجاوز عرضه ثلاثة أمتار والذي يعبر شاتيلا، يشق حشد المشاة طريقهم بين حافلات الركاب الصغيرة التي تعيد طلاب المدارس إلى منازلهم والدراجات والحمير التي تجر عربات تسليم البضائع.
بين المارة وأصحاب المتاجر الذين سألتهم الصحفية، وحتى الفلسطينيين منهم لم تجد قضماني من يستطيع تحديد موقع المجزرة التاريخية التي يبدو أن بعضهم يجهلونها أصلا، لولا أن رجلا مسنا أشار إلى جهة مسجد الرحاب بالطرف الجنوبي من المخيم.
وأخيرا تجد قضماني النصب التذكاري للمجزرة -كما تقول- مختبئا خلف المتاجر في مساحات خضراء، وعليه لافتة كبيرة تحمل ألوان العلم الفلسطيني وقد كتب عليها بالإنجليزية والعربية "مذبحة صبرا وشاتيلا 16-17 سبتمبر (أيلول) 1982" وأرضه مغطاة ببطانية زاهية الألوان.
وعند النصب التذكاري، يقول موظف للبلدية بقلق "الزوار نادرون للغاية خارج الذكرى السنوية". وتختم قضماني جولتها بقول المعلمة سوسن الفلسطينية "كلنا نعيش هنا مثل الموتى".
المصدر : ليبراسيون