تقطير الزهر.. متطوعون مغاربة يحيون تراثا أندلسيا طواه النسيان

سلا -المغرب- تفوح روائح زهور النارنج (البرتقال المر) داخل الحديقة الأندلسية بالحدائق العجيبة لبوقنادل ضواحي سلا، بينما أعين الزوار تتابع باهتمام عملية تقطيره خطوة خطوة.

ودأبت جمعية أصدقاء الحدائق العجيبة، بتعاون مع مؤسسة محمد السادس للبيئة، على تقطير زهور النارنج وفق الطريقة التقليدية، في فعالية سنوية تهدف إلى إحياء هذه المهارة التي كانت تميز البيوت المغربية في الماضي.

وتقطير الزهر ممارسة قديمة في المدن العتيقة حيث كانت النساء يحرصن مع دخول فصل الربيع على تقطير الزهور في المنازل بطريقة تقليدية، ووفق طقوس أصيلة، اعتمادا على أداة مصنوعة من النحاس تسمى "القطارة".

آلة تقطير أزهار النارنج النحاسية وتسمى "القطارة" (الجزيرة)

وتتكون القطارة من 3 أوعية نحاسية، يملأ الأول بالماء ويوضع على النار ويسمى "البرمة" وفوقه وعاء آخر به ثقوب صغيرة وفيه توضع الزهور وبعض حبات النارنج ويسمى "الكسكاس" ثم وعاء ثالث شكله هرمي يسكب فوقه الماء البارد.

بعد غلي المياه يتصاعد البخار مرورا بوعاء الزهر إلى قبة الوعاء الهرمي حيث يحتك البخار بالمياه الباردة فتتكاثف قطرات ماء الزهر، وتنسكب عبر أنبوب طويل في زجاجات.

زهر شجر النارنج أو البرتقال المر (الجزيرة)

تقليد أندلسي

يقول عبد العاطي لحلو الخبير في التراث اللامادي والانثروبولوجيا -للجزيرة نت- إن المغاربة أخذوا هذا التقليد من الأندلسيين.

ونقل الموريسكيون هذه الممارسة معهم إلى المدن التي استقروا بها مثل الرباط وسلا ومكناس وفاس وتطوان ومراكش، وغيرها من المدن العتيقة.

وكانت النساء يحرصن على تقطير زهور النارنج في بيوتهن مع دخول فصل الربيع لتوفير حاجتهن السنوية من ماء الزهر.

ويعد ماء الزهر ضروريا لتحضير عدد من المأكولات والحلويات، وفي تحضير العطور والتجميل، بالإضافة إلى استعماله في التطبيب التقليدي.

"مازهر" (ماء الزهر) كما ينطقه المغاربة أساسي أيضا في المناسبات كالأعراس والولائم حيث يتم استقبال الضيوف برشهم بهذا الماء بعد وضعه في وعاء فضي يسمى "المرشة" وتعد أدوات التقطير النحاسية جزءا أساسيا من أثاث الأسر في المدن العتيقة.

وكانت النساء في الماضي يجتمعن في أحد البيوت ويقمن بتقطير الزهر وفق طقوس موروثة، إذ يشترط في المرأة التي تشرف على تقطير الزهر أن تكون على طهارة، في حين تنطلق العملية وسط ترديد الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يسمى التعشيق لدى المغاربة.

وتقطير الزهر عملية دقيقة تستوجب مهارة وتركيزا، إذ يتم تجفيف زهور النارنج في مكان لا تدخله الشمس لمدة يومين أو ثلاثة، ويتم غسل "القطارة" وتنشيفها تحت أشعة الشمس حتى تتخلص من رائحة المعدن.

إلى جانب ذلك، يقول الدكتور لحلو إن على المشرف على عملية التقطير الانتباه إلى عدم اجتفاف "البرمة" وتغيير الماء البارد في الوعاء الهرمي كلما أصبح دافئا.

ويوضح أن كيلوغرامين من زهر النارنج يمكنهما تقطير 4 لترات من ماء الزهر المركز، وبعدها ينبغي إفراغ "الكسكاس" من الزهر المقطر ووضع كمية أخرى حتى لا يفقد ماء الزهر تركيزه.

أدوات خاصة لتقطير أزهار النارنج (الجزيرة)

تراث طواه النسيان

أطلقت جمعية أصدقاء الحدائق العجيبة فعالية تقطير الزهر منذ 7 سنوات، من أجل الحفاظ على هذا التراث الذي طواه النسيان، ونقله إلى الأجيال الحالية التي لم تشهد هذه الممارسة في بيوتها ولا تعرف عنها أي معلومة.

يقول عبد العاطي لحلو، وهو نائب رئيس جمعية أصدقاء الحدائق العجيبةـ إن هذا الطقس يدخل ضمن التراث اللامادي للمغرب، وفيه التقاء الإنسان بالطبيعة ويعكس تراثا حضاريا ينبغي إحياؤه والحفاظ عليه من الاندثار.

ومع دخول فصل الربيع وتفتح أزهار شجر النارنج البيضاء ذات الرائحة الفواحة، يعمل متطوعو الجمعية على جني الزهور، وتجفيفها ثم ينقلونها إلى الحدائق العجيبة لتنظيم فعالية تقطير الزهر وسط أجواء أندلسية بين الأشجار الباسقة وخرير المياه.

يشير لحلو إلى أنهم وجدوا في البدايات صعوبة في العثور على آلة التقطير النحاسية بسبب اندثار صناعتها، فلجأت إدارة الحدائق العجيبة إلى حرفي في فاس لصنعها تحت الطلب.

ورغم أن هذه العادة تراجعت بشكل كبير في البيوت أمام توفر هذه المادة في المحلات التجارية، فإن بعض النساء الكبيرات في السن ما زلن متمسكات بتقطير الزهر في بيوتهن وفق الأصول المتوارثة عن الجدات لكون نكهته أفضل من الزهر المقطر في المصانع.

عملية تقطير الزهر بالحدائق العجيبة تتم أمام الجمهور (الجزيرة)

تبسيط المعلومات

يشرح الدكتور إبراهيم حدان مدير الحدائق العجيبة للزوار طريقة تقطير الزهر بدءا من جنيه وتجفيفه إلى غاية تعبئة ماء الزهر في قنينات (زجاجات) زجاجية معتمة.

وبينما ينشغل مساعدوه بمراقبة عملية التقطير عن كثب، يوزع على الجمهور كؤوس من ماء الزهر ليتشاركوا النتيجة وجودة المنتوج النهائي.

وتعد هذه الفعالية جزءا من البرنامج التربوي الذي تنظمه الحدائق العجيبة لزوارها من الصغار والكبار، إلى جانب فعاليات أخرى غايتها التربية البيئية وحماية الطبيعة والتعرف على التنوع البيولوجي.

يقول حدان للجزيرة نت "نحاول تبسيط طريقة تقطير الزهر لزوار الحديقة خاصة الأطفال والشباب وتعريفهم بهذا التراث والحفاظ عليه".

في الربيع عند تفتح أزهار شجر النارنج البيضاء ذات الرائحة الفواحة يعمل متطوعو الجمعية على جني الزهور (الجزيرة)

توجد الحدائق العجيبة لبوقنادل على بعد 12 كيلومترا من الرباط، وهي مفتوحة في وجه العموم منذ عام 1961 لمدة 10 سنوات بعد تأسيسها من طرف المهندس الفرنسي مارسيل فرانسوا.

كان هذا المهندس يحلم بإنشاء جنة للنباتات فوجد في أرض ضواحي سلا مبتغاه، حيث يتميز الموقع بتربة خصبة ومياه جوفية ومناخ معتدل.

جال فرانسوا المستعمرات الفرنسية وأحضر منها أنواعا مختلفة من النباتات وزرعها في الأرض رفقة فلاحي المنطقة، إلى أن أنشأ جنته وسماها الحدائق العجيبة.

وتضم الحدائق بركا مائية وأكواخا وجسورا معلقة، وأكثر من 600 فصيلة نباتية استقدمت من القارات الخمس و80 فصيلة حيوانية.

تغطي الحدائق 4.5 هكتارات تم تصنيفها وترتيبها حسب مواضيعها بناء على 3 مفاهيم: الحدائق الطبيعية للكونغو وآسيا الوسطى والبرازيل وبيرو والمكسيك، والحدائق الثقافية من الصين واليابان والأندلس، الحدائق التربوية المكونة من مشتل وبيت الطير ومساكن الزواحف.

المصدر : الجزيرة