عقيل البابلي.. خزّاف عراقي يطوع الطين لصناعة المسلات السومرية والبابلية

البابلي أحدث تطوّرًا في صناعة الخزف لإنتاج لوحات فنية عالية الجودة، وهو يمزج بين الحداثة وحرفة عمرها آلاف السنين.

البابلي ورث الحرفة عن عائلة كاملة تمتهنها (الجزيرة)

كربلاء- إنه عقيل البابلي آخر الكوّازين في منطقة الفرات الأوسط والجنوب العراقي الذين يُفخِّرون الطين ويصنعون منه أواني لشرب الماء وتبريده، إنه سليل الحضارة السومرية والبابلية التي تعاملت مع الطين ونحتت الرقم الطينية والمسلّات، كوّاز (خزاف) يصنع الأواني الفخارية ويستثمر مهنته ليطوّع الطين وينحت ما له علاقة بالحضارة البابلية والسومرية فيصنع ما يشاء من ذلك بطريقته الخاصة.

حرفة الكوّاز البابلية التي كادت تنقرض أعادها البابلي أيضا لتكون بضاعة تحظى بالقبول لدى زبائن هاربين من حرّ الصيف وانقطاع الكهرباء، ليعلن هو ذاته أن شرب الماء من كوز الطين أكثر صحة من شرب الماء المدفوع عبر أنابيب تمتد على عشرات الكيلومترات وتفقده قيمته.

نماذج من لوحات صنعها عقيل البابلي (الجزيرة)

الأصل والجذور

ربما كان تفكير الإنسان الأوّل في كيفية تخزين المياه لشربه، وتهيئة الطعام فكان أن فكّر في صنع الأواني، فاتّجه إلى الطين اليابس ثم فكّر في كيفية استدامته فاتجه إلى النار، فكان أن أطلق عليه الفخار الذي تحوّل في ما بعد إلى الرقم الطينية التي تكتب عليها اللوائح والتعليمات والأوامر، ولا يكاد شعب له حضارة عريقة يخلو من أن يكون الفخار والأواني الفخارية بين إرث حضارته، سواء في بلاد الرافدين وبلاد النيل والصين والهند وحتى أميركا واليونان.

وفي وادي الرافدين تكاد تكون هذه الحرفة أو المهنة أو حتى الصناعة هي الأكثر قبولًا، فليس من مكان بابلي أو سومري وحتى آشوري إلا توجد فيه لقىً مصنوعة من الفخار. وفي العصر الإسلامي تحوّل الفخار إلى خزف ملوّن يصنع في قوالب عادية أو منقوشة بالأشكال المختلفة في المساجد، أو تزين بها الجدران كالفسيفساء الملونة والبيضاء.

وظهرت كذلك صناعة القيشاني والسيراميك الإسلامي في إيطاليا بالقرن الـ15، وانتشرت صناعته في أوروبا كالفخار الرمادي أو الأسود الجميل الصنع، وفي عهد الخلافة الأموية (661 م- 750م) كانت الأكواب والأواني تصنع بمصر من البلور (الزجاج) الصخري الأزرق أو الأخضر، وفي القرن التاسع شجع العباسيون صناع الفخار والخزف على تقليد الصناعة الصينية بألوانها وأشكالها البارزة على السطح، وانتقلت في القرن العاشر هذه الصناعة من الشام والعراق إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا ولا سيما التزجيج بالقصدير.

والكوّاز عقيل البابلي من مواليد 1973 حاصل على شهادة الإعدادية، ويقول إنه تفرّغ منذ الصغر لهذه الحرفة حتى صارت يداه في الطين وأصابعه تقطر ماء به عسل الطين، كما يمكن وصف عمله.

ويضيف "صار الطين ملاذي، والماء روحي حتى إني أحببت الانعزال لكي لا أسمع سوى صوت الطين بين يدي، أو على الآلة وهو يدور بين أصابعي وأشكّل منه ألواحًا فنية أو أواني فخارية"، فهو يتحدّى التكنولوجيا ويواصل ممارسة الفن بصنع لوحات يجسد فيها "الحضارة السومرية والبابلية، وكل ما له علاقة بتاريخ العراق مثل أسد بابل، ومسلة حمورابي، ومجلس نبوخذ نصر، والملك كوديا، والعربة الملكية وغيرها من الآثار". لذا فهو يعتقد أنه امتداد طبيعي للطين الذي يمتد عمره آلاف السنين، معبّرًا عن أحاسيسه بطريقة شاعرية، "أنا أعشق الطين وأعشق المهنة ولن أجعلها تندثر، فتلك روحٌ كلّما نفخنا فيها صارت جمالا".

البابلي يصنع لوحات يجسد فيها الحضارة السومرية والبابلية وكل ما له علاقة بتاريخ العراق (الجزيرة)

مهنة وحرفة

وفي العراق تعدّ صناعة الفخار -أو ما يطلق عليه (الكوازة)- امتدادا لصناعة الفخار التاريخية، وما من مدينة عراقية إلا فيها عشرات من المشتغلين في هذه المهنة حتى وقت قريب، وهم يصنعون كوز الماء أو (الشربة) أو ما تسمى في مصر (القُلّة) التي تستخدم لتبريد الماء، إذ يوضع الكوز تحت ظلّ شجرة أو نخلة للحصول على ماء بارد، وذلك كان قبل تسارع الحياة وابتكار أجهزة تبريد كثيرة أسهمت في الاستغناء عن هذه الصناعات كجزء من التقدّم الحضاري والتكنولوجي.

ويقول الكوّاز عن حرفته إنه مستمر فيها، إذ ورثها عن عائلة كاملة تمتهن هذه الحرفة من آباء وأخوال وأجداد تمتد إلى عاشر جدّ، ويشير إلى أن الكوّاز يختلف عن صانع السيراميك وعن الخزّاف لكنهم جميعا "يتّخذون من مادة الطين أساسا للفن والصناعة"، معتبرًا حرفته "فنًّا أيضا، فاليدان هما من تدوران في الصناعة، والتشكل الفني والقدرة على تطويع الطين ومعرفته هي أدواته الفنية".

وعن استمراره فيها رغم أنها لم تعد حرفة تدرّ المال، فكر في تحويلها "إلى فن، وهو أيضا يدر المال من أولئك الذي يبحثون عن مقتنيات للزينة، وذلك ما جعلني أستمر في إنتاج أنواع مثل الحِبْ والتنكة والشَرْبة والبسْتوكة وجباسة السمك والسنادين للزرع وطاسات الماء والأكواب وتنور الطين والنوروزيات وكل الأعمال الفخارية"، وهي أسماء باللهجة العراقية المتعارف عليها وكل له استخدامه. لكنه يستدرك أن "هذه الصناعة أو الحرفة اختفت في كل منطقة الفرات الأوسط وجنوب العراق، وربما انقرضت وانحصرت في صناعة التنور الذي يخبز فيه الخبز في المناطق الريفية فقط".

نماذج أخرى من أعمال عقيل البابلي (الجزيرة)

تحديث وتقنيات

ولأن في داخله فنانا فقد أنشأ مشغلًا أو ورشة تقع على أطراف مدينة بابل (80 كلم جنوب بغداد) لينعزل ويصمم النماذج، ومنها الألواح البابلية والكتابة المسمارية.

وعن طريقة صنعه يقول "في البداية أجلب التراب الأحمر من منطقة النهروان في بغداد، وأنقعه بالماء ثم أنشره تحت أشعة الشمس ليتماسك ويكون قويا، ثم أبدأ بعجن الطين بإضافة نفّاش قصب البردي للحصول على تماسك أقوى وتجنب حدوث تشقّقات في جسد اللوحة في المستقبل".

ويستمر بالقول "بعد ذلك تبدأ مرحلة التصميم حسب ما أريد تشكيله، ثم أعرض اللوحة على أشعة الشمس حتى تجفّ، وأدخلها إلى الكورة وأوجّه عليها النار مدة 12ساعة لتصل درجة الحرارة إلى ألف درجة مئوية".

ويشير إلى أنه أحدث تطوّرًا في الصناعة إذ قام بتغيير دولاب الفخار من الرفس بالرجل إلى العمل بالكهرباء، واعتمد تصفية الطين بطريقة الخزافين لا بطريقة الكوّازين أو صانعي الفخار، بمعنى أنه مزج "بين عمل الكوّازين والخزّافين لإنتاج لوحات فنية عالية الجودة"، مؤكدا أنه يمزج "بين الحداثة وحرفة عمرها آلاف السنين".

المصدر : الجزيرة