مصر: باعة البهجة الصغار.. فتيان حرمتهم الظروف الاقتصادية من لهو يقدمونه لأقرانهم

اللعبة المفضلة لفتى يعمل عليها لا يمكنه اللعب بها إلا بعد الاختلاء بها. (تصوير خاص لطفل يعمل باحد الملاهي ـ القاهرة ـ ديسمبر 2020)
اللعبة المفضلة لفتى يعمل عليها لكنه لا يستطيع اللعب بها إلا بعد انتهاء الزبائن من استخدامها (الجزيرة)

دقّت الساعة العاشرة، وفرغت منطقة ملاهي الأطفال من الأطفال وذويهم، فانتظر ياسين ذو الأعوام الـ16 ريثما يغلق المكان أبوابه، ثم نادى زميله حازم الذي يصغره بشهور، ومشيا معًا باتجاه لعبة يحبّانها، العربات التصادمية، استقلّاها وأخذا يلهوان متصادمين بسرعة ومرح وابتهاج.

يعمل ياسين في ملاهي أطفال بمنطقة شعبية بالقاهرة، بدأ بالعمل فيها أثناء الإجازة الصيفية قبل الماضية لمساعدة والده العامل بأحد المصانع في الإنفاق على الأسرة، ومع اجتياح فيروس كورونا المستجد للبلاد في مارس/آذار الماضي، واتخاذ الحكومة قرارات بوقف الأنشطة المختلفة ومنها التعليم وأماكن الترفيه، نزل ياسين وصديقه حازم إلى الشوارع يبيعون حلوى غزل البنات للأطفال المارّين مع ذويهم.

وعادت الأعمال إلى النشاط الصيف الماضي، ثم فتحت المدارس أبوابها للتلاميذ قبل شهرين، لكن ياسين وحازم لم يعودا إلى الدراسة، بل عادا إلى شركة ملاهي الأطفال طالبين العمل، وعملا وسط فتيان مقاربين لهم في العمر، وساعدتهم قرارات وزارة التعليم لإداراتها ومدارسها -بالتساهل مع التلاميذ لعدم تسجيل الغياب- على الانتظام بالعمل منذ 12 ظهرًا وحتى 10 مساء.

وقت اللهو

يبدأ الفتيان العاملون في الملاهي نهارهم فيها ظهيرة كل يوم بتسلّم كل منهم لعبته، ياسين للعربات التصادمية، وحازم للفناجين الطائرة، ومحمود للأحصنة المتحركة، وزياد للقطار، ونور لبالون التزلج.

ويتسلّمون مهماتهم في العمل ظهيرة كل يوم، ليقوم كل منهم بتشغيل اللعبة، تأكيدًا على جاهزيتها وصلاحيتها للعمل، وإذا سمع صوتًا غريبًا صادرًا منها فإنه يوقفها فاحصًا إياها لمعرفة سبب الخلل المحدث للصوت، "يكون الأمر بسيطا أحيانًا فيحتاج إلى ضخّ قليل من الزيت في محرك تشغيل الآلة" يقول ياسين للجزيرة نت، مضيفًا "أحيانًا يتطلب الأمر تشغيلها مرات عدة بعد محاولة التليين الأولية، فإذا تبين أن بها عطلا ما يتطلب استدعاء فني فإننا نبلغ إدارة الملهى، منعا لتعريض الأطفال الذين سيلعبون بها للخطر".

أنا رجل عامل ولست طفلا

ومع ضجيج دوران الألعاب مساء فور قدوم الأطفال بكثافة للعب بالملهى، تفيض أعين ياسين وحازم ورفاقهما برغبة مكتومة في المسرات المحرمة، رغبة في اللهو وسط أقرانهم الفتيان، إذ يعرب حازم عن مكنون صدره بالقول للجزيرة نت "أود كثيرًا أن أشارك الفتيان اللهو، أتخيل للحظة أنني أخلع زي العمل وأقفز فوق بالون التزلج، لأسابقهم صعودًا ونزولًا عليه، لكنني ألجم رغبتي بقوة، وأذكّرها بأنني هنا رجل عامل ولست طفلا".

ويمارس حازم اللهو بلعبته المفضلة تلك عقب انتهاء مواعيد العمل وغلق الملهى، لكن "اللهو الصاخب وسط أقران آخرين له طعم آخر".

مهمة غير شاقة.. ولكن

يحصل كل فتى عامل هنا على نحو 1200 جنيه شهريًا مقابل عمله (الدولار يعادل 16.70 جنيها) وهو "رقم متواضع جدا لا يغري عمالًا من الشباب الخريجين الأكبر سنًا من هؤلاء بالعمل"، حسب مشرف عمال بالملهى رفض ذكر اسمه، وقال للجزيرة نت "العمل هنا لا يحتاج إلى مهارات خاصة ولا إلى مجهود عنيف، مجرد ضغطة على زر اللعبة لتعمل اللعبة بالوقت المبرمج لها، تعمل دقيقتين أو 5 دقائق على أفضل تقدير ثم تتوقف، ليخرج الأطفال منها ثم يدخل آخرون للعب بها، وعندما يستقرون في اللعبة، يشغلها الفتى العامل، وهكذا".

ويرى المشرف أن هؤلاء الفتيان هم الأنسب لهذه المهمة غير الشاقة، ولا سيما أنهم محتاجون إلى عائدها الشهري المتواضع لعدم تحميل أهليهم أعباءهم من مصروفات التعليم والنفقات شخصية، معترفًا أن هذا الأمر مخالف للقوانين المجرمة لتشغيل الأطفال وعمالتهم، وأكد أن "أعضاء حملات التفتيش من الجهات الرسمية تتغاضى عن وجودهم تطبيقًا لروح القانون".

الظروف الاقتصادية المتفاقمة بفعل كورونا بعض الأطفال لعون أٍسرهم بالعمل في بيع حلوى محرمة عليهم. (تصوير خاص لطفل يبيع حلوى غزل البنات ـ القاهرة ـ ديسمبر 2020
الظروف الاقتصادية المتفاقمة جراء كورونا دفعت بعض الأطفال لدعم أسرهم بالعمل في بيع حلوى محرمة عليهم (الجزيرة)

حلوى غزل البنات

وعلى أي حال، فهذا المرتب الشهري المتواضع يعد كبيرًا مقارنة بعوائد بيع حلوى غزل البنات التي عمل بها الفتيان ياسين وحازم عند غلق الأنشطة ومنها الملهى.

غير أن صاحب الماكينة الصغيرة المنتجة لقطع الحلوى، الذي يسلمهما إنتاجها صباح كل يوم، كان يعد القطع المتبقية آخر النهار، لمعرفة كم بيع منها ثم يحسب ربحه من البيع ويعطيهما مبلغًا يراوح بين 10 و20 جنيها، ويتسلم ما تبقى من أكياس الحلوى.

وما كان يحزن لأجله ياسين وصديقه حازم الذي عّبر عن شعوره الطاغي عليه وقت قبض المال وتسليم الحلوى هو أن الرجل "كان بخيلًا، وكنا نأمل في أن يترك لنا بضع قطع من الحلوى المحرمة علينا. نشتهيها لأنفسنا ونبيعها لأقراننا".

الصديقان العاملان في خدمة لهو أقرانهم، ينتظران خلو المكان لبدء لهوهما على الألعاب. (تصوير خاص لطفل يعمل باحد الملاهي ـ القاهرة ـ ديسمبر 2020)
الصديقان العاملان في خدمة لهو أقرانهم ينتظران خلو المكان لبدء لهوهما على الألعاب هما أيضا (الجزيرة)

هذه أخطر الألعاب

عند لعبة الطبق الطائر يساعد حازم فتى في مثل عمره على ركوبها، ثم يناوله شقيقه الطفل الذي لم يتعدّ عمره 5 سنوات ليجلس إلى جواره بداخل لعبة تتخذ شكل أخطبوط له أذرع كل منها ينتهي بشكل فنجان فيه مقعد مستطيل يسع طفلين، يقلب حازم وجهه في كل الفناجين مطمئنًا لاستقرار الجميع في أماكنهم بأمان، رابطين أحزمة الأمان، ثم يضغط على زر تشغيل اللعبة.

يتحدث حازم من دون أن ينزل عينيه من على الفناجين الدائرة الطائرة صعودا وهبوطًا بسرعات مختلفة قائلًا "هذه أخطر الألعاب هنا، لو غفلت عنها لحظة فهناك خشية من أن ينزع الطفل حزام الأمان ويقفز منها فزعًا وهي دائرة، مصيبة لو لم نوقف اللعبة ونسارع إلى اللحاق به قبل أن يقفز".

لكن ياسين اختلف مع صديقه حازم، قائلًا إن لعبة صديقهما زياد هي الأخطر، "فالقطار الذي يعمل عليه يسير على قضبان مكهربة، تضخ الطاقة في جرار القطار فيتحرك جارًا عرباته، ولو انتقل ماس كهربائي من القضبان إلى القطار المعدني، لصعق ركابه من الأطفال فورًا، لا قدر الله، ومن ثمّ فعلى زياد التأكد تماما كل ساعة من عدم وجود الماس، وأحيانا يقوم بذلك بنفسه بأداة يستخدمها الكهربائيون".

ويكشف حديث ياسين عن معرفة جيدة بالكهرباء وطرق التعامل معها، فهو في الصف الثاني بالثانوية الفنية الصناعية قسم الكهرباء.

يفحص الفتى العامل لعبته ليجهزها لأقرانه للعب بها. (تصوير خاص لطفل يعمل باحد الملاهي ـ القاهرة ـ ديسمبر 2020)
يفحص الفتى العامل لعبته ليجهزها لأقرانه للعب بها (الصحافة العربية)

لعبته التي لا يلعبها

يتحدث الفتى من هؤلاء عن اللعبة التي يعمل عليها وميزاتها ومخاطرها بوصفها "لعبته"، لعبته التي يشغّلها ولا يلعبها.

لم يستخدم ياسين منذ وقت طويل لفظ "لعبتي"، كما قال "لا أذكر أنني اقتنيت لعبة خاصة مثل بقية الأطفال، ظروف أسرتي المادية لم تكن تسمح، اقتسمت اللهو مع إخوتي الأكبر سنا مني في الدمى والعربات صينية الصنع التي تعمل بالبطاريات، وكانت تخصهم هم في الأساس".

وحينما تدق العاشرة مساء، ويغلق الملهى على الفتيان يتوزعون على الألعاب لا حسب مهماتهم عليها كما هو الحال في الظهيرة، بل وفق ميولهم لها، يلهون بها تحت سمع وبصر المشرفين والمديرين وأصحاب الملهى. ويعرض الفتيان على الإدارة دفع مقابل للعب، لكن المديرين يرفضون أخذ المقابل، فهنا، في هذا المكان، ميزة أخرى للعمل فضلا عن الأجر الأعلى من أجر بيع الحلوى المحرمة عليهم، هنا يمنحونهم أيضا بعضا من اللهو الذي يبيعونه لأقرانهم.

المصدر : الجزيرة